الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك سعيا واعلم أن الله عزيز حكيم [ ص: 313 ] قوله تعالى: وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحي الموتى في سبب سؤاله هذا أربعة أقوال . أحدها: أنه رأى ميتة تمزقها الهوام والسباع ، فسأل هذا السؤال ، وهذا قول ابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، والضحاك ، وعطاء الخراساني ، وابن جريج ، ومقاتل . وما الذي كانت هذه الميتة؟ فيه ثلاثة أقوال . أحدها: كان رجلا ميتا ، قاله ابن عباس . والثاني: كان جيفة حمار ، قاله ابن جريج ، ومقاتل . والثالث: كان حوتا ميتا ، قاله ابن زيد . والثاني: أنه لما بشر باتخاذ الله له خليلا ، سأل هذا السؤال ليعلم صحة البشارة ، ذكره السدي عن ابن مسعود ، وابن عباس . وروي عن سعيد بن جبير أنه لما بشر بذلك ، قال: ما علامة ذلك؟ قال: أن يجيب الله دعاءك ، ويحيي الموتى بسؤالك ، فسأل هذا السؤال . والثالث: أنه سأل ذلك ليزيل عوارض الوسواس ، وهو قول عطاء بن أبي رباح . والرابع: أنه لما نازعه نمرود في إحياء الموتى ، سأل ذلك ليرى ما أخبر به عن الله ، وهذا قول محمد بن إسحاق .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: (أولم تؤمن) أي: أولست قد آمنت أني أحيي الموتى؟ وقال ابن جبير: ألم توقن بالخلة؟

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: (بلى ولكن ليطمئن قلبي) "اللام" متعلقة بفعل مضمر ، تقديره: ولكن سألتك ليطمئن ، أو أرني ليطمئن قلبي ، ثم في المعنى أربعة أقوال . أحدها: لأعلم أنك تجيبني إذا دعوتك ، قاله ابن عباس . والثاني: ليزداد قلبي يقينا ، قاله سعيد بن جبير . وقال الحسن: كان إبراهيم موقنا ، ولكن ليس الخبر كالمعاينة . والثالث: ليطمئن قلبي بالخلة ، روي عن ابن جبير أيضا . والرابع: أنه كان قلبه متعلقا برؤية إحياء الموتى ، فأراد: ليطمئن قلبه بالنظر ، قاله ابن قتيبة . وقال غيره: كانت نفسه تائقة إلى رؤية ذلك ، وطالب الشيء قلق إلى أن يظفر بطلبته ، يدل على أنه لم يسأل لشك ، أنه قال: (أرني كيف تحي الموتى) وما قال: هل تحيي الموتى .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 314 ] قوله تعالى: فخذ أربعة من الطير في الذي أخذ سبعة أقوال . أحدها: أنها الحمامة ، والديك ، والكركي ، والطاووس ، رواه عبد الله بن هبيرة عن ابن عباس . والثاني: أنها الطاووس ، والديك ، والدجاجة السندية ، والأوزة ، رواه الضحاك عن ابن عباس . وفي لفظ آخر ، رواه الضحاك مكان الدجاجه السندية الرأل ، وهو فرخ النعام . والثالث: أنها الشعانين ، وكانت قرباهم يومئذ ، رواه أبو صالح عن ابن عباس . والرابع: أنها الطاووس ، والنسر ، والغراب ، والديك ، نقل عن ابن عباس أيضا . والخامس: أنها الديك ، والطاووس والغراب ، والحمام ، قاله عكرمة ، ومجاهد ، وعطاء وابن جريج ، وابن زيد . والسادس: أنها ديك ، وغراب ، وبط ، وطاووس ، رواه ليث عن مجاهد . والسابع: أنها الديك ، والبطة ، والغراب ، والحمامة ، قاله مقاتل . وقال عطاء الخراساني: أوحى الله إليه أن خذ بطة وغرابا أسود ، وحمامة بيضاء ، وديكا أحمر .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: (فصرهن إليك) قرأ الجمهور بضم الصاد ، والمعنى: أملهن إليك ، يقال: صرت الشيء فانصار ، أي: أملته فمال ، وأنشدوا:


                                                                                                                                                                                                                                      الله يعلم أنا في تلفتنا يوم الفراق إلى جيراننا صور



                                                                                                                                                                                                                                      فمعنى الكلام: اجمعهن إليك . ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا فيه إضمار قطعهن . قال ابن قتيبة: أضمر "قطعهن" واكتفى بقوله: ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا عن قوله "قطعهن" لأنه يدل عليه ، وهذا كما تقول: خذ هذا الثوب ، واجعل على كل رمح عندك منه علما . يريد: قطعه ، وافعل ذلك ، وقرأ أبو جعفر ، وحمزة ، وخلف ، [ ص: 315 ] والمفضل ، عن عاصم (فصرهن إليك) بكسر الصاد . قال اليزيدي: هما واحد ، وقال ابن قتيبة: الكسر والضم لغتان . قال الفراء: أكثر العرب على ضم الصاد ، وحدثني الكسائي أنه سمع بعض بني سليم يقول: صرته ، فأنا أصيره . وروي عن ابن عباس ، ووهب ، وأبي مالك ، وأبي الأسود الدؤلي ، والسدي ، أن معنى المكسورة الصاد: قطعهن . وروي عن أبي عبيدة أنه قال: معناه بالضم: اجمعهن ، وبالكسر: قطعهن .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا قال الزجاج: معناه: اجعل على كل جبل من كل واحد منهن جزءا . وروي عوف عن الحسن قال: اذبحهن ونتفهن ، ثم قطعهن أعضاء ، ثم خلط بينهن جميعا ، ثم جزئها أربعة أجزاء ، وضع على كل جبل جزءا . ثم تنحى عنهن ، فدعاهن ، فجعل يعدو كل عضو إلى صاحبه حتى استوين كما كن ، ثم أتينه يسعين . وقال قتادة: أمسك رؤوسها بيده ، فجعل العظم يذهب إلى العظم ، والريشة إلى الريشة ، والبضعة إلى البضعة ، وهو يرى ذلك ، ثم دعاهن ، فأقبلن على أرجلهن يلقي لكل طائر رأسه . وفي عدد الجبال التي قسمن عليها قولان . أحدهما: أنه قسمهن على أربعة أجبل ، قاله ابن عباس ، والحسن ، وقتادة . وروي عن ابن عباس قال: جعلهن أربعة أجزاء في أرباع الأرض ، كأنه يعني جهات الإنسان الأربع . والثاني: أنه قسمهن سبعة أجزاء على سبعة أجبل ، قاله ابن جريج ، والسدي .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: ثم ادعهن يأتينك سعيا قال ابن قتيبة: يقال: عدوا ، ويقال: مشيا على أرجلهن ، ولا يقال: لطير إذا طار: سعى (واعلم أن الله عزيز) أي: منيع لا يغلب ، (حكيم) فيما يدبر . ويزعم مقاتل أن هذه القصة جرت لإبراهيم بالشام قبل أن يكون له ولد ، وقبل نزول الصحف عليه ، وهو ابن خمس وسبعين سنة .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية