الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              الباب الرابع في أركان القياس وشروط كل ركن

              وأركانه أربعة : الأصل ، والفرع ، والعلة والحكم فلنميز القول في شرط كل ركن ليكون أقرب إلى الضبط

              الركن الأول : وهو الأصل وله شروط ثمانية الشرط الأول : أن يكون حكم الأصل ثابتا فإنه إن أمكن توجيه المنع عليه لم ينتفع به الناظر ولا المناظر قبل إقامة الدليل على ثبوته .

              الثاني : أن يكون الحكم ثابتا بطريق سمعي شرعي ، إذ ما ثبت بطريق عقلي أو لغوي لم يكن حكما شرعيا ، والحكم اللغوي والعقلي لا يثبت قياسا عندنا كما ذكرناه في كتاب أساس القياس

              الثالث : أن يكون الطريق الذي به عرف كون المستنبط من الأصل علة سمعا ; لأن كون الوصف علة حكم شرعي ووضع شرعي .

              الرابع : أن لا يكون الأصل فرعا لأصل آخر بل يكون ثبوت الحكم فيه بنص أو إجماع فلا معنى لقياس الذرة على الأرز ثم قياس الأرز على البر ; لأن الوصف الجامع إن كان موجودا في الأصل الأول كالطعم مثلا فتطويل الطريق عبث ، إذ ليست الذرة بأن تجعل فرعا للأرز أولى من عكسه ; وإن لم يكن موجودا في الأصل فبم يعرف كون الجامع علة ؟ وإنما يعرف كون الشبه والمناسب علة بشهادة الحكم وإثباته على وفق المعنى ، فإذا لم يكن الحكم منصوصا عليه أو مجمعا عليه لم يصلح لأن يستدل به على ملاحظة المعنى المقرون به ; لأن ذلك يؤدي في قياس الشبه إلى أن يشبه بالفرع الثالث رابع وبالرابع خامس فينتهي الأخير إلى حد لا يشبه الأول ، كما لو التقط حصاة وطلب ما يشبهها ثم طلب ما يشبه الثانية ثم طلب ما يشبه الثالثة ثم ينتهي بالآخرة إلى أن لا يشبه العاشر الأول ; لأن الفروق الدقيقة تجتمع فتظهر المفارقة .

              فإن قيل : فأي فائدة لفرض المناظر الكلام في بعض الصور ؟ قلنا : للفرض محلان

              أحدهما : أن يعم السائل بسؤاله جملة من الصور فيخصص المناظر بعض الصور إذ يساعده فيه خبر أو دليل خاص أو يندفع فيه بعض شبه الخصم

              الثاني : أن تبني فرعا على فرع آخر وهو ممتنع على الناظر المجتهد لما ذكرناه .

              أما قبوله من المناظر فإنه ينبني على اصطلاح الجدليين ، فالجدل شريعة وضعها المتناظرون ونظرنا في المجتهد وهو لا ينتفع بذلك ، وموافقة الخصم على الفرع لا تنفع ولا تجعله أصلا إذ الخطأ ممكن على الخصمين إلا أن يكون ذلك إجماعا مطلقا فيصير أصلا مستقلا .

              الخامس : أن يكون دليل إثبات العلة في الأصل ، مخصوصا بالأصل لا يعم الفرع ، مثاله أنه لو قال : السفرجل مطعوم فيجري فيه الربا قياسا على البر ، ثم استدل على إثبات كون الطعم علة بقوله عليه السلام : { لا تبيعوا الطعام بالطعام } أو قال فضل القاتل القتيل بفضيلة الإسلام فلا يقتل به كما لو قتل المسلم المعاهد ، ثم استند في إثبات علته إلى قوله : { لا يقتل مؤمن بكافر } [ ص: 325 ] فهذا قياس منصوص على منصوص وهو كقياس البر على الشعير والدراهم على الدنانير .

              السادس : قال : قوم : شرط الأصل أن يقوم دليل بجواز القياس عليه ، وقال قوم : بل أن يقوم دليل على وجوب تعليله

              وهذا كلام مختل لا أصل له ، فإن الصحابة حيث قاسوا لفظ الحرام على الظهار أو الطلاق أو اليمين لم يقم دليل عندهم على وجوب تعليل أو جوازه ، لكن الحق أنه إن انقدح فيه معنى مخيل غلب على الظن اتباعه ، وترك الالتفات إلى المحل الخاص ، وإن كان الوصف من قبيل الشبه كالطعم الذي يناسب فيحتمل أن يقال : لولا ضرورة جريان الربا في الدقيق والعجين وامتناع ضبط الحكم باسم البر لما وجب استنباط الطعم .

              فهذا له وجه وقد ذكرناه ، وإن لم يرد به هذا فلا وجه له .

              السابع : أن لا يتغير حكم الأصل بالتعليل ، ومعناه ما ذكرناه من أن العلة إذا عكرت على الأصل بالتخصيص فلا تقبل كما ذكرناه في كتاب التأويل في مسألة الأبدال ، وقد بينا أن المعنى إن كان سابقا إلى الفهم جاز أن يكون قرينة مخصصة للعموم ; أما المستنبط بالتأمل ففيه نظر .

              الثامن : أن لا يكون الأصل معدولا به عن سنن القياس ، فإن الخارج عن القياس لا يقاس عليه غيره .

              وهذا مما أطلق ويحتاج إلى تفصيل ، فنقول : قد اشتهر في ألسنة الفقهاء أن الخارج عن القياس لا يقاس عليه غيره ، ويطلق اسم الخارج عن القياس على أربعة أقسام مختلفة ; فإن ذلك يطلق على ما استثني من قاعدة عامة ، وتارة على ما استفتح ابتداء من قاعدة مقررة بنفسها لم تقطع من أصل سابق وكل واحد من المستثنى والمستفتح ينقسم إلى ما يعقل معناه وإلى ما لا يعقل معناه ، فهي أربعة أقسام .

              الأول : ما استثني عن قاعدة عامة وخصص بالحكم ، ولا يعقل معنى التخصيص فلا يقاس عليه غيره ; لأنه فهم ثبوت الحكم في محله على الخصوص ، وفي القياس إبطال الخصوص المعلوم بالنص ، ولا سبيل إلى إبطال النص بالقياس .

              بيانه ما فهم من تخصيص النبي عليه السلام واستثنائه في تسع نسوة ، وفي نكاح امرأة على سبيل الهبة من غير مهر ، وفي تخصيصه بصفي المغنم وما ثبت من تخصيصه خزيمة بقبول شهادته وحده ، وتخصيصه أبا بردة في العناق أنها تجزي عنه في الضحية ، فهذا لا يقاس عليه ; لأنه لم يرد ورود النسخ للقاعدة السابقة بل ورود الاستثناء مع إبقاء القاعدة فكيف يقاس عليه ؟ وكونه خاصية لمن ورد في حقه تارة يعلم وتارة يظن فالمظنون كاختصاص قوله : { لا تخمروا رأسه ولا تقربوه طيبا فإنه يحشر يوم القيامة ملبيا } وقوله في شهداء أحد : { زملوهم بكلومهم ودمائهم } فقال أبو حنيفة : لا ترفع به قاعدة الغسل في حق المحرمين والشهداء ; لأن اللفظ خاص ، ويحتمل أن يكون الحكم خاصا لاطلاعه على إخلاصهم في العبادة ، ونحن لا نطلع على موت غيرهم على الإسلام فضلا عن موتهم على الإحرام والشهادة .

              ولما قال للأعرابي الذي واقع أهله في نهار رمضان : { تصدق به على أهل بيتك } ولم يقر الكفارة في ذمته عند عجزه وجعل [ ص: 326 ] الشبق عجزا عن الصوم قال أكثر العلماء : هو خاصية وقال صاحب التقريب : يلتحق به من يساويه في الشبق والعجز .

              ومن جعله خاصة استند فيه إلى أنه لو فتح هذا الباب فيلزم مثله في كفارة الظهار وسائر الكفارات ، ونص القرآن دليل على أنهم لا ينفكون عن واجب ، وإن اختلفت أحوالهم في العجز ، فحمله على الخاصية أهون من هدم القواعد المعلومة .

              القسم الثاني : ما استثني عن قاعدة سابقة ويتطرق إلى استثنائه معنى ، فهذا يقاس عليه كل مسألة دارت بين المستثنى والمستبقى وشارك المستثنى في علة الاستثناء ، مثاله استثناء العرايا ، فإنه لم يرد ناسخا لقاعدة الربا ولا هادما لها لكن استثني للحاجة ، فنقيس العنب على الرطب ; لأنا نراه في معناه .

              وكذلك إيجاب صاع من تمر في لبن المصراة لم يرد هادما لضمان المثليات بالمثل ، لكن لما اختلط اللبن الحادث بالكائن في الضرع عند البيع ولا سبيل إلى التمييز ولا إلى معرفة القدر وكان متعلقا بمطعوم يقرب الأمر فيه خلص الشارع المتبايعين من ورطة الجهل بالتقدير بصاع من تمر ، فلا جرم ، نقول لو رد المصراة بعيب آخر لا بعيب التصرية فيضمن اللبن أيضا بصاع وهو نوع إلحاق وإن كان في معنى الأصل ، ولولا أنا نشم منه رائحة المعنى لم نتجاسر على الإلحاق ; فإنه لما فرق في بول الصبيان بين الذكور والإناث وقال : { يغسل من بول الصبية ويرش على بول الغلام } ولم ينقدح فيه معنى لم يقس عليه الفرق في حق البهائم بين ذكورها وإناثها ; وكذلك حكم الشرع ببقاء صوم الناسي على خلاف قياس المأمورات قال أبو حنيفة : لا نقيس عليه كلام الناسي في الصلاة ولا أكل المكره والمخطئ في المضمضة ، ولكن قال : جماع الناسي في معناه ; لأن الإفطار باب واحد والشافعي قال : الصوم من جملة المأمورات بمعناه إذ افتقر إلى النية والتحق بأركان العبادات وهو من جملة المنهيات في نفسه وحقيقته ، إذ ليس فيه إلا ترك يتصور من النائم جميع النهار ، فإسقاط الشرع عهدة الناسي ترجيح لنزوعه إلى المنهيات فنقيس عليه كلام الناسي ونقيس عليه المكره والمخطئ على قول .

              القسم الثالث : القاعدة المستقلة المستفتحة التي لا يعقل معناها ، فلا يقاس عليها غيرها لعدم العلة فيسمى خارجا عن القياس تجوزا ، إذ معناه أنه ليس منقاسا ; لأنه لم يسبق عموم قياس ولا استثناء حتى يسمى المستثنى خارجا عن القياس بعد دخول فيه ; ومثاله : المقدرات في أعداد الركعات ، ونصب الزكوات ومقادير الحدود والكفارات وجميع التحكمات المبتدأة التي لا ينقدح فيها معنى ، فلا يقاس عليها غيرها ; لأنها لا تعقل علتها .

              القسم الرابع : في القواعد المبتدأة العديمة النظير ، لا يقاس ، عليها مع أنه يعقل معناها ; لأنه لا يوجد لها نظير خارج مما تناوله النص والإجماع والمانع من القياس فقد العلة في غير المنصوص ، فكأنه معلل بعلة قاصرة ; ومثاله : رخص السفر : في القصر ، والمسح على الخفين ، ورخصة المضطر في أكل الميتة وضرب الدية على العاقلة وتعلق الأرش برقبة العبد وإيجاب غرة الجنين والشفعة في العقار وخاصية الإجارة والنكاح وحكم اللعان والقسامة وغير ذلك من نظائرها ، فإن هذه القواعد متباينة المأخذ فلا يجوز أن يقال بعضها خارج عن قياس البعض ، بل لكل واحدة من هذه القواعد معنى منفرد به لا يوجد له نظير فيه ، فليس البعض بأن يوضع أصلا ويجعل الآخر [ ص: 327 ] خارجا عن قياسه بأولى من عكسه ولا ينظر فيه إلى كثرة العدد وقلته .

              وتحقيقه أنا نعلم أنه إنما جوز المسح على الخف لعسر النزع ومسيس الحاجة إلى استصحابه فلا نقيس عليه العمامة والقفازين وما لا يستر جميع القدم لا ; لأنه خارج عن القياس لكن ; لأنه لا يوجد ما يساويه في الحاجة وعسر النزع وعموم الوقوع ، وكذلك رخصة السفر لا شك في ثبوتها بالمشقة ولا يقاس عليها مشقة أخرى ; لأنها لا يشاركها غيرها في جملة معانيها ومصالحها ; لأن المرض يحوج إلى الجمع لا إلى القصر ، وقد يقضي في حقه بالرد من القيام إلى القعود ولما ساواه في حاجة الفطر سوى الشرع بينهما . وكذلك قولهم تناول الميتة رخصة خارجة عن القياس غلط ; لأنه إن أريد به أنه لا يقاس عليه غير المضطر ; فلأنه ليس في معناه ، وإلا فلنقس الخمر على الميتة ، والمكره على المضطر فهو منقاس .

              وكذلك بداءة الشرع بأيمان المدعي في القسامة لشرف أمر الدم ولخاصية لا يوجد مثلها في غيره ; لأنه عديم النظير فلا يقاس عليه ، وأقرب شيء إليه البضع وقد ورد تصديق المدعي باللعان على ما يليق به وكذلك ضرب الدية على العاقلة فإن ذلك حكم الجاهلية قرره الشرع لكثرة وقوع الخطأ وشدة الحاجة إلى ممارسة السلاح ، ولا نظير له في غير الدية وهذا مما يكثر فبهذا يعرف أن قول الفقهاء " تأقت الإجارة " خارج عن قياس البيع والنكاح خطأ كقولهم : " تأبد البيع والنكاح خارج عن قياس الإجارة " وتأقت المساقاة " خارج عن تأبد القراض ، بل تأبد القراض خارج عن قياس تأقت المساقاة .

              فإذا هذه الأقسام الأربعة لا بد من فهمها وبفهم بيانها يحصل الوقوف على سر هذا الأصل

              التالي السابق


              الخدمات العلمية