الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الوظيفة السادسة : أن يستصغر العطية فإنه إن استعظمها أعجب بها ، والعجب من المهلكات وهو محبط للأعمال قال تعالى ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا ويقال : إن الطاعة كلما استصغرت عظمت عند الله عز وجل .

والمعصية ، كلما استعظمت صغرت عند الله عز وجل .

وقيل : لا يتم المعروف إلا بثلاثة أمور : تصغيره وتعجيله وستره

التالي السابق


(الوظيفة السادسة: أن يستصغر) المعطي (العطية) ويستقلها (فإنه إن استعظمها) في نفسه (أعجب بها، والعجب من المهلكات) كما روى الطبراني في الأوسط من حديث ابن عمر: ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه. وقد تقدم قريبا (وهو) مع كونه مهلكا (محبط للأعمال) أي: مفسد لها ومهدر، (قال الله تعالى) مخاطبا لنبيه صلى الله عليه وسلم: ( ويوم حنين ) أي: اذكر يوم حنين، وهو مصغر، واد بين مكة والطائف، مذكر منصرف، وقد يؤنث على معنى البقعة ( إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا ) وقصته: أن النبي صلى الله عليه وسلم فتح مكة في رمضان سنة ثمان، خرج منها لقتال هوازن وثقيف، وقد بقيت أيام رمضان، فصار إلى حنين، فلما التقى الجمعان قال بعض المسلمين: لم نغلب عن كثرة، فداخلهم العجب؛ فانكشف المسلمون ثم أمدهم الله بنصره وعصفوا وقتلوا المشركين، فهزموهم وغنموا أموالهم وعيالهم، ثم سار المشركون إلى أوطاس واقتتلوا، فانهزم المشركون إلى الطائف وغنم المسلمون منهم أيضا أموالهم وعيالهم، ثم سار إلى الطائف فقاتلهم بقية شوال، فلما أهل ذو القعدة ترك القتال؛ لأنه شهر حرام، ورحل راجعا فنزل الجعرانة وقسم غنائم أوطاس وحنين، ويقال: كانت ستة آلاف سبي (ويقال: إن [ ص: 124 ] الطاعة كلما استصغرت عظمت عند الله تعالى، وإن المعصية كلما استعظمت صغرت عند الله تعالى) .

كذا في القوت، (وقيل:) عن بعض العلماء (لا يتم المعروف إلا بثلاث:) صفات (تصغيره) أي: استحقاره واستقلاله (وتعجيله) أي: المسارعة في إيصاله إلى المستحق (وستره) بأن لا يذكره على لسانه، ولا يبث به. نقله صاحب القوت، واعلم أن ما ذهب إليه المصنف تبعا لصاحب القوت وغيره من العارفين هو المشهور عندهم من استحقار ما يعطي، والذي صرح به الشيخ الأكبر -قدس سره- في كتاب الشريعة: أن الأذواق والمشارب في هذه المسألة مختلفة بحسب أحوالهم، وأشار إلى أن منهم من يرى استعظام ما يعطي، وهو أيضا مشهد من مشاهدهم، فقال: الناس على أربعة أقسام فيما يعطونه وفيما يأخذونه: قسم يستعظم ما يعطي ويستحقر ما يأخذ، وقسم يستحقر ما يأخذ ويستعظم ما يعطي وما يأخذوا لهذا منهم من ينتقي وهم الذين لا يرون وجه الحق في الأشياء، ومنهم لا ينتقي وهم الذين يرون وجه الحق في الأشياء، وقد ينتقون لحاجة الوقت وقد لا ينتقون لاطلاعهم على فقرهم المطلق، فمنهم ومنهم، فإن مشاربهم مختلفة وكذلك مشاهدهم، فإن الحال للنفس الناطقة كالمزاج للنفس الحيوانية، فإن المزاج على الجسم والحال حاكم على النفس .

ثم اعلم أن استعظام الصدقة مشروع؛

قال الله تعالى: فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير وقال: وأطعموا القانع والمعتر يعني من البدن التي جعلها الله من شعائر الله ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب لكم فيها منافع إلى أجل مسمى ثم محلها إلى البيت العتيق يعني البدن. وفي هذه القصة قال: ومما رزقناهم ينفقون ، وقد تقدم في شرح المنفق الذي الإنفاق منه كونه له وجهان، فكذلك هنا، فنالنا منها لحومها ونال الحق منها التقوى منا فيها، ومن تقواها تعظيمها، فقد يكون استعظام الصدقة من هذا الباب عند بعض العارفين؛ فلهذا يستعظم ما يعطي إن كان معطيا أو ما يأخذ إن كان آخذا، وقد يكون مشهده ذوقا آخر، وهو أول مشهد ذقناه من هذا الباب في هذا الطريق، وهو أني حملت في يدي يوما شيئا محقرا مستقذرا في العادة عند العامة، لم يكن أمثالنا يحمل مثل ذلك من أجل ما في النفوس من رعونة الطبع ومحبة التميز من لا يلحظ بعين التعظيم، فرأيت شيخا ومعه أصحابه مقبلا، فقال له أصحابه: يا سيدنا، هذا فلان قد أقبل وما قصر في الطريق، لقد جاء هو نفسه تراه يحمل في وسط السوق حيث يراه الناس كذا، وذكروا له ما كان بيدي، فقال الشيخ: فلعله ما حمله مجاهدة لنفسه، قالوا له: فما ثم إلا هذا، قال: فسلوه إذا اجتمع بنا، فلما وصلت إليهم سلمت على الشيخ، فقال لي بعد رد السلام: بأي خاطر حملت هذا في يدك، وهو أمر مستحقر، وأهل منصبك من أرباب الدنيا لا يحملون مثل هذا في أيديهم لحقارته واستقذاره؟! فقلت له: يا سيدنا، حاشاك من هذا النظر، ما هو نظر مثلك، إن الله تعالى ما استقذره ولا حقره لما علق القدرة بإيجاده، كما علقها بإيجاد العرش، وما تعظمونه من المخلوقات، فكيف بي وأنا عبد حقير ضعيف استحقر أو استقذر ما هو بهذه المثابة، فقبلني ودعا لي، وقال لأصحابه: أين هذا الخاطر من حمل الجاهد نفسه؟! فقد يكون استعظام الصدقة في هذا الباب في حق المعطي وفي حق الآخذ؛ فلاستعظام الأشياء وجوه مختلفة يعتبرها أهل الله. أوحى الله إلى موسى: يا موسى، إذا جاءتك من أحد باقلاء مسوسة فاقبلها، فإني الذي جئت بها إليك، فيستعظمها المعطي من حيث إنه نائب عن الحق في إيصالها ويستعظمها الآخذ من حيث إن الله جاء بها إليه؛ فيد المعطي هنا يد الحق عن مشاهدة أو إيمان قوي؛ فإن الله تعالى يقول: إن الله قال على لسان عبده: سمع الله لمن حمده، فأضاف القول إليه، والعبد هو الناطق بذلك. وقال تعالى في الخبر: كنت له سمعا وبصرا ويدا ومؤيدا. وقد يكون استعظامها عند أهل الكشف لما يرى ويشاهد ويسمع من تسبيح تلك الصدقة أو العطية أو الهبة أو الهدية أو ما كانت لله تعالى، وتعظيمها لخالقها باللسان الذي يليق بها من قوله تعالى: وإن من شيء إلا يسبح بحمده فتعظم عنده لما عندها من تعظيم الحق وعدم الغفلة والفتور دائما، كما تعظم الملوك الصالحين وإن كانوا فقراء مهانين؛ عبيدا كانوا أو إماء، وأهل بلاء كانوا أو معافين، ويتبركون [ ص: 125 ] بهم لانتسابهم إلى طاعة الله عما يقال، فكيف لصاحب المشهد الذي يعاين؟! فمن كان هذا مشهده أيضا من معط وآخذ يستعظم ظلم خلق الله؛ إذ هو كله بهذه المثابة، وقد يقع التعظيم له أيضا من باب كونه فقيرا لذلك الشيء محتاجا إليه من كون الحق جعله سببا لا يصل إلى حاجته إلا به، سواء كان معطيا أو آخذا إذا كان هذا مشهده، وقد يستعظم ذلك أيضا من حيث قول الله تعالى: يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله فتسمى الله في هذه الآية بكل شيء يفتقر إليه، وهذا منها، وأسماء الحق معظمة، وهذا من أسمائه، وهي دقيقة لا يتفطن إليها كل أحد إلا من شاهد هذا المشهد، وهو من باب الغيرة الإلهية والنزول الإلهي العام، فقد تستعظم الصدقة من هذا الكشف، وأما استحقارها عند بعضهم فلمشهد آخر ليس هذا؛ فإن مشاهد القوم وأحوالهم وأذواقهم ومشاربهم تحكم عليهم بقوتها وسلطانها، وهل كل ما ذكرناه من الاستعظام إلا من باب حكم الأحوال والأذواق والمشاهد على أصحابها؟! فمنها أن يشاهد مكان ما يعطيه من صدقته إن كان معطيا أو ما يأخذ إن كان آخذا، وإلا ما كان للممكن صفة افتقارية وذلة وحاجة وحقارة، فيستحقر صاحب هذا المشهد كل شيء، سواء كان ذلك من أنفس الأشياء في العادة أو غير نفيس، وقد يكون مشربه أيضا في الاستحقار من يعطي من أجل الله أو يأخذ بيد الله. رأيت بعض أهل الله، وشخص قد سأله فقير أن يعطيه شيئا لأجل الله، وهو ينتقي من صرة في يده فيها قطع فضة صغار وكبار، فانتقى منها أصغرها ودفعها للسائل، فقال لي ذلك الرجل الصالح: يا أخي، تعرف على ما ينتقي هذا المعطي من هذه القطع؟ قلت له: لا، قال لي: إنما ينتقي قيمته عند الله، فكلما خرجت له قطعة كبيرة يقول: ما نسوي هذا عند الله، فما أعطي لله إلا قدر ما يسوى عند الله؛ لأن السائل من أجل الله سأل، وكل محتقر في جنب الله؛ إذ لا يقاوم الله شيء؛ فلابد من الاستحقار لمن هذا مشهده، وأمثال هذا مما يطول ذكره، وقد نبهنا على ما فيه كفاية من ذلك مما يدخل فيه الأربعة الأقسام التي قسمنا العالم إليها في أول الفصل، والله أعلم. اهـ .




الخدمات العلمية