الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : وإذا حللتم فاصطادوا ، يعني إن شئتم ، فلا يدل هذا الأمر على إيجاب الاصطياد عند الإحلال ، ويدل له الاستقراء في القرآن ، فإن كل شيء كان جائزا ، ثم حرم لموجب ، ثم أمر به بعد زوال ذلك الموجب ، فإن ذلك الأمر كله في القرآن للجواز ، نحو قوله هنا : وإذا حللتم فاصطادوا ، وقوله : فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض [ 62 \ 10 ] ، وقوله : فالآن باشروهن الآية [ 2 \ 187 ] ، وقوله : فإذا تطهرن فأتوهن الآية [ 2 \ 222 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      ولا ينقض هذا بقوله تعالى : فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين الآية [ 9 \ 5 ] ; لأن قتلهم كان واجبا قبل تحريمه العارض بسبب الأشهر الأربعة سواء قلنا : إنها أشهر الإمهال المذكورة في قوله : فسيحوا في الأرض أربعة أشهر [ 9 \ 2 ] ، أو [ ص: 327 ] قلنا : إنها الأشهر الحرم المذكورة في قوله تعالى : منها أربعة حرم [ 9 \ 36 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وبهذا تعلم أن التحقيق الذي دل عليه الاستقراء التام في القرآن أن الأمر بالشيء بعد تحريمه يدل على رجوعه إلى ما كان عليه قبل التحريم من إباحة أو وجوب ، فالصيد قبل الإحرام كان جائزا فمنع للإحرام ، ثم أمر به بعد الإحلال بقوله : وإذا حللتم فاصطادوا ، فيرجع لما كان عليه قبل التحريم ، وهو الجواز ، وقتل المشركين كان واجبا قبل دخول الأشهر الحرم ، فمنع من أجلها ، ثم أمر به بعد انسلاخها في قوله : فإذا انسلخ الأشهر الحرم الآية ، فيرجع لما كان عليه قبل التحريم ، وهو الوجوب .

                                                                                                                                                                                                                                      وهذا هو الحق في هذه المسألة الأصولية .

                                                                                                                                                                                                                                      قال ابن كثير في تفسير هذه الآية : وهذا أمر بعد الحظر ، والصحيح الذي يثبت على السبر أنه يرد الحكم إلى ما كان عليه قبل النهي ، فإن كان واجبا رده ، فواجب ، وإن كان مستحبا فمستحب ، أو مباحا فمباح .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن قال : إنه للوجوب ينتقض عليه بآيات كثيرة ; ومن قال : إنه للإباحة يرد عليه بآيات أخرى ، والذي ينتظم الأدلة كلها هذا الذي ذكرناه كما اختاره بعض علماء الأصول ، والله أعلم ، انتهى منه بلفظه .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذه المسألة أقوال أخر عقدها في ( مراقي السعود ) بقوله : [ الرجز ]


                                                                                                                                                                                                                                      والأمر للوجوب بعد الحظل وبعد سؤال قد أتى للأصل



                                                                                                                                                                                                                                      أو يقتضي إباحة للأغلب إذا تعلق بمثل السبب

                                                                                                                                                                                                                                      إلا فذا المذهب والكثير له إلى إيجابه مصير

                                                                                                                                                                                                                                      وقد تقرر في الأصول أن الاستقراء التام حجة بلا خلاف ، وغير التام المعروف بـ " إلحاق الفرد بالأغلب " حجة ظنية ، كما عقده في مراقي السعود في كتاب " الاستدلال " بقوله : [ الرجز ]


                                                                                                                                                                                                                                      ومنه الاستقراء بالجزئي     على ثبوت الحكم للكلي



                                                                                                                                                                                                                                      فإن يعم غير ذي الشقاق     فهو حجة بالاتفاق



                                                                                                                                                                                                                                      وهو في البعض إلى الظن انتسب     يسمى لحوق الفرد بالذي غلب



                                                                                                                                                                                                                                      فإذا عرفت ذلك ، وعرفت أن الاستقراء التام في القرآن دل على ما اخترنا ، [ ص: 328 ] واختاره ابن كثير ، وهو قول الزركشي من أن الأمر بعد الحظر يدل على رجوع الحكم إلى ما كان عليه قبل التحريم ، عرفت أن ذلك هو الحق ، والعلم عند الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية