الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله (تعالى): واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ؛ روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في معنى الحبل ههنا أنه القرآن؛ وكذلك روي عن عبد الله ؛ وقتادة ؛ والسدي ؛ وقيل: إن المراد به دين الله (تعالى)؛ وقيل: بعهد الله; لأنه سبب النجاة؛ كالحبل الذي يتمسك به للنجاة من غرق؛ أو نحوه؛ ويسمى الأمان "الحبل"; لأنه سبب النجاة؛ وذلك في قوله (تعالى): إلا بحبل من الله وحبل من الناس ؛ يعني به الأمان؛ إلا أن قوله: واعتصموا بحبل الله جميعا ؛ هو أمر بالاجتماع؛ ونهي عن الفرقة؛ وأكده بقوله: ولا تفرقوا ؛ معناه [ ص: 314 ] التفرق عن دين الله (تعالى) الذي أمروا جميعا بلزومه؛ والاجتماع عليه؛ وروي نحو ذلك عن عبد الله ؛ وقتادة ؛ وقال الحسن: ولا تفرقوا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ وقد يحتج به فريقان من الناس؛ أحدهما نفاة القياس والاجتهاد في أحكام الحوادث؛ مثل النظام؛ وأمثاله من الرافضة؛ والآخر من يقول بالقياس والاجتهاد؛ ويقول مع ذلك إن الحق واحد من أقاويل المختلفين في مسائل الاجتهاد ؛ ويخطئ من لم يصب الحق عنده؛ لقوله (تعالى): ولا تفرقوا ؛ فغير جائز أن يكون التفرق والاختلاف دينا لله (تعالى)؛ مع نهي الله (تعالى) عنه؛ وليس هذا عندنا كما قالوا؛ لأن أحكام الشرع في الأصل على أنحاء؛ منها ما لا يجوز الخلاف فيه؛ وهو الذي دلت العقول على حظره في كل حال؛ أو على إيجابه في كل حال؛ فأما ما جاز أن يكون تارة واجبا؛ وتارة محظورا؛ وتارة مباحا؛ فإن الاختلاف في ذلك سائغ؛ يجوز ورود العبادة به؛ كاختلاف حكم الطاهر والحائض في الصوم والصلاة؛ واختلاف حكم المقيم والمسافر في القصر والإتمام؛ وما جرى مجرى ذلك؛ فمن حيث جاز ورود النص باختلاف أحكام الناس فيه؛ فيكون بعضهم متعبدا بخلاف ما تعبد به الآخر؛ لم يمتنع تسويغ الاجتهاد فيما يؤدي إلى الخلاف الذي يجوز ورود النص بمثله؛ ولو كان جميع الاختلاف مذموما لوجب ألا يجوز ورود الاختلاف في أحكام الشرع من طريق النص والتوقيف؛ فما جاز مثله في النص جاز في الاجتهاد؛ وقد يختلف المجتهدان في نفقات الزوجات؛ وقيم المتلفات؛ وأروش كثير من الجنايات؛ فلا يلحق واحدا منهما لوم؛ ولا تعنيف؛ وهذا حكم مسائل الاجتهاد؛ ولو كان هذا الضرب من الاختلاف مذموما لكان للصحابة في ذلك الحظ الأوفر؛ ولما وجدناهم مختلفين في أحكام الحوادث؛ وهم مع ذلك متواصلون؛ يسوغ كل واحد منهم لصاحبه مخالفته من غير لوم؛ ولا تعنيف؛ فقد حصل منهم الاتفاق على تسويغ هذا الضرب من الاختلاف؛ وقد حكم الله (تعالى) بصحة إجماعهم؛ وثبوت حجته؛ في مواضع كثيرة من كتابه؛ وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "اختلاف أمتي رحمة"؛ وقال: "لا تجتمع أمتي على ضلال"؛ فثبت بذلك أن الله (تعالى) لم ينهنا بقوله: ولا تفرقوا ؛ عن هذا الضرب من الاختلاف؛ وأن النهي منصرف إلى أحد وجهين؛ إما في النصوص؛ أو فيما قد أقيم عليه دليل عقلي؛ أو سمعي؛ لا يحتمل إلا معنى واحدا؛ وفي فحوى الآية ما يدل على أن المراد هو الاختلاف؛ والتفرق في أصول الدين؛ لا في فروعه؛ وما يجوز ورود العبادة بالاختلاف فيه؛ وهو قوله (تعالى): واذكروا نعمت الله عليكم إذ [ ص: 315 ] كنتم أعداء فألف بين قلوبكم ؛ يعني: "بالإسلام"؛ وفي ذلك دليل على أن التفرق المذموم المنهي عنه في الآية هو في أصول الدين؛ والإسلام؛ لا في فروعه؛ والله (تعالى) أعلم.

التالي السابق


الخدمات العلمية