الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كل شيء قدير وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير والله على [ ص: 856 ] كل شيء قدير وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين

                                                                                                                                                                                                                                      في نهاية الدرس الماضي ، ذكر الله المسلمين بميثاقهم الذي واثقهم به ; وذكرهم نعمته التي أنعم بها عليهم في هذا الميثاق . ذلك كي يؤدوا من جانبهم ما استحفظوا عليه ; ويتقوا أن ينقضوا ميثاقهم معه .

                                                                                                                                                                                                                                      فالآن يستغرق هذا الدرس كله في استعراض مواقف أهل الكتاب من مواثيقهم ; واستعراض ما حل بهم من العقاب نتيجة نقضهم لهذه المواثيق ; لتكون هذه - من جانب - تذكرة للجماعة المسلمة ماثلة من بطون التاريخ ، ومن واقع أهل الكتاب قبلهم ، وليكشف الله - من جانب - عن سنته التي لا تتخلف ولا تحابي أحدا . ومن الجانب الثالث ليكشف عن حقيقة أهل الكتاب وحقيقة موقفهم ; وذلك لإبطال كيدهم في الصف المسلم ; وإحباط مناوراتهم ومؤامراتهم ; التي يلبسونها ثوب التمسك بدينهم ; وهم في الحقيقة قد نقضوا هذا الدين من قبل ; ونقضوا ما عاهدوا الله عليه . .

                                                                                                                                                                                                                                      ويحتوى هذا الدرس على استعراض ميثاق الله مع قوم موسى ، عند إنقاذهم من الذل في مصر ; ثم نقضهم لهذا الميثاق ; وما حاق بهم نتيجة نقضهم له ; وما أصابهم من اللعنة والطرد من مجال الهدى والنعمة . . وعلى استعراض ميثاق الله مع الذين قالوا : إنا نصارى . ونتيجة نقضهم له من إغراء العداوة بين فرقهم المختلفة إلى يوم القيامة . ثم على استعراض موقف اليهود أمام الأرض المقدسة التي أعطاهم الله ميثاقه أن يدخلوها ، فنكصوا على أعقابهم وجبنوا عن تكاليف ميثاق الله معهم . وقالوا لموسى فاذهب أنت وربك فقاتلا، إنا ها هنا قاعدون . .

                                                                                                                                                                                                                                      ويتخلل هذا الاستعراض للمواثيق ومواقف أهل الكتاب منها ، كشف لما وقع في عقائد اليهود والنصارى من انحراف نتيجة نقضهم لهذه المواثيق ; التي عاهدهم الله فيها على توحيده والإسلام له ; في مقابل ما أعطاهم من النعم ، وما ضمن لهم من التمكين ; فأبوا ذلك كله على أنفسهم ; فباءوا باللعنة والفرقة والتشريد . . [ ص: 857 ] كذلك يتضمن دعوتهم من جديد إلى الهدى . . الهدى الذي جاءتهم به الرسالة الأخيرة ; وجاءهم به الرسول الأخير . ودحض ما قد يدعونه من حجة في أنه طال عليهم الأمد ، ومرت بهم فترة طويلة منذ آخر أنبيائهم ، فنسوا ولبس عليهم الأمر . . فها هو ذا قد جاءهم بشير ونذير . فسقطت الحجة ، وقام الدليل .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن خلال هذه الدعوة ، تتبين وحدة دين الله - في أساسه - ووحدة ميثاق الله مع جميع عباده : أن يؤمنوا به ، ويوحدوه ، ويؤمنوا برسله دون تفريق بينهم ، وينصروهم ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، وينفقوا في سبيل الله من رزق الله . . فهو الميثاق الذي يقرر العقيدة الصحيحة ، ويقرر العبادة الصحيحة ، ويقرر أسس النظام الاجتماعي الصحيح . .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية