الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (14) قوله تعالى : زين للناس : العامة على بنائه للمفعول ، والفاعل المحذوف هو الله تعالى ؛ لما ركب في طباع البشر من حب هذه الأشياء ، وقيل : هو الشيطان ، عن الحسن : "من زينها ؟ إنما زينها الشيطان لأنه لا أحد أبغض لها من خالقها " .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ مجاهد : "زين " مبنيا للفاعل ، "حب " مفعول به نصا ، والفاعل : إما ضمير الله تعالى لتقدم ذكره الشريف في قوله تعالى : والله يؤيد [ ص: 57 ] بنصره ، وإما ضمير الشيطان ، أضمر وإن لم يجر له ذكر ، لأنه أصل ذلك ، فذكر هذه الأشياء مؤذن بذكره . وأضاف المصدر لمفعوله في "حب الشهوات " .

                                                                                                                                                                                                                                      والشهوات : جمع "شهوة " بسكون العين ، فحركت في الجمع ، ولا يجوز التسكين إلا في ضرورة كقوله :


                                                                                                                                                                                                                                      1194 - وحملت زفرات الضحى فأطقتها ومالي بزفرات العشي يدان



                                                                                                                                                                                                                                      بتسكين الفاء . والشهوة : مصدر يراد به اسم المفعول أي : المشتهيات فهو من باب : رجل عدل ، حيث جعلت نفس المصدر مبالغة ، والشهوة : ميل النفس ، ويجمع على "شهوات " ، كالآية الكريمة ، وعلى "شهى " كغرف ، قالت امرأة من بني نضر بن معاوية :


                                                                                                                                                                                                                                      1195 - فلولا الشهى والله كنت جديرة     بأن أترك اللذات في كل مشهد



                                                                                                                                                                                                                                      وقال النحويون : لا تجمع فعلة المعتلة اللام - يعنون بفتح الفاء وسكون العين - [على فعل ] إلا ثلاثة ألفاظ : كوة وكوى - فيمن فتح كاف "كوة " - وقرية وقرى ونزوة ونزى ، واستدرك الشيخ عليهم هذه اللفظة أيضا فيكن أربعة وأنشد البيت . وقال الراغب : "وقد يسمى المشتهى شهوة ، وقد [ ص: 58 ] يقال للقوة التي بها تشتهي الشيء شهوة ، وقوله تعالى : زين للناس حب الشهوات يحتمل الشهوتين .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : من النساء في محل نصب على الحال من " الشهوات "والتقدير : حال كون الشهوات من كذا وكذا فهي مفسرة لها في المعنى ، ويجوز أن تكون " من "لبيان الجنس ، ويدل عليه قول الزمخشري : " ثم يفسره بهذه الأجناس " .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : والقناطير جمع قنطار . وفي نونه قولان أحدهما : - وهو قول جماعة - أنها أصلية ، وأن وزنها فعلال كحملاق وقرطاس . والثاني أنها زائدة ووزنه فنعال كقنعاس - وهو الجمل الشديد - ، قيل : واشتقاقه من : قطر يقطر إذا سال ، لأن الذهب والفضة يشبهان بالماء في سرعة الانقلاب وكثرة التقلب . وقال الزجاج : " هو مأخوذ من قنطرت الشيء إذا عقدته وأحكمته ، ومنه : القنطرة لإحكام عقدها " .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : من الذهب كقوله : " من النساء "وقد تقدم . والذهب مؤنث ، ولذلك يصغر على " ذهيبة " ، ويجمع على ذهاب وذهوب . وقيل : " الذهب "جمع في المعنى لـ " ذهبة " ، واشتقاقه من الذهاب . الفضة يجمع على فضض . واشتقاقها من انفض الشيء إذا تفرق ، ويقال : "رجل ذهب " بكسر الهاء ، أي : رأى معدن الذهب فدهش .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : والخيل عطف على "النساء " قال أبو البقاء : "لا على الذهب والفضة لأنها لا تسمى قنطارا " ، وتوهم مثل ذلك بعيد جدا فلا حاجة إلى التنبيه عليه .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 59 ] والخيل فيه قولان ، أحدهما أنه جمع ولا واحد له من لفظه بل مفرده "فرس " فهو نظير : قوم ورهط ونساء . والثاني : أن واحده "خايل " فهو نظير راكب وركب ، وتاجر وتجر ، وطائر وطير ، وفي هذا خلاف بين سيبويه والأخفش ، فسيبويه يجعله اسم جمع ، والأخفش يجعله جمع تكسير . وفي اشتقاقها وجهان ، أحدهما : من الاختيال وهو العجب ، سميت بذلك لاختيالها في مشيتها وطول أذنابها . قال امرؤ القيس :


                                                                                                                                                                                                                                      1196 - لها ذنب مثل ذيل العرو     س تسد به فرجها من دبر



                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : من التخيل ، قيل : لأنها تتخيل في صورة من هو أعظم منها .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : أصل الاختيال من التخيل ، وهو التشبه بالشيء ؛ لأن المختال يتخيل في صورة من هو أعظم منه كبرا ، والأخيل : الشقراق لأنه يتغير لونه بحسب [المقام ] مرة أحمر ، ومرة أخضر ، ومرة أصفر ، وعليه قوله :


                                                                                                                                                                                                                                      1197 - كأبي براقش كل لو     ن لونه يتخيل



                                                                                                                                                                                                                                      وجوز بعضهم أن يكون مخففا من "خيل " بتشديد الياء نحو : "ميت " في ميت ، و "هين " في هين . وفيه نظر لأن كل ما سمع فيه التخفيف سمع [التثقيل ، وهذا لم يسمع إلا مخففا ، وقد تقدم نظير ] هذا البحث في لفظ "الغيب " .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 60 ] وقال الراغب : "الخيل في الأصل للأفراس والفرسان جميعا ، قال تعالى : ومن رباط الخيل ، ويستعمل في كل واحد منهما منفردا ، نحو ما روي : " يا خيل الله اركبي "فهذا للفرسان ، وقوله عليه السلام : " عفوت لكم عن صدقة الخيل "يعني الأفراس وفيه نظر ؛ لأن أهل اللغة نصوا على أن قوله عليه السلام : " يا خيل الله اركبي " : إما مجاز إضمار ، وإما مجاز علاقة ، ولو كان للفرسان بطريق الحقيقة لما ساغ قولهم ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : المسومة أصل التسويم : التعليم ، ومعنى مسومة : معلمة إما بالكي وإما بالبلق كما جاء ذلك في التفسير . وقيل : بل هو من سوم ماشيته أي : رعاها ، فمعنى مسومة أي : مرعية ، يقال : " أسمت ماشيتي فسامت " ، قال تعالى : فيه تسيمون ، وسومتها فاستامت ، فيكون الفعل عدي تارة بالهمزة وتارة بالتضعيف . وقيل : بل هو من السيمياء وهي الحسن ، فمعنى مسومة أي : ذات حسن ، قاله عكرمة واختاره النحاس ، قال : " لأنه من الوسم " . وقد رد عليه بعضهم باختلاف المادتين . قد أجاب بعضهم عنه بأنه من باب المقلوب فيصح ما قاله . وقد تقدم تحقيق ذلك في قوله يسومونكم وقوله تعالى : بسيماهم .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 61 ] قوله : والأنعام هي جمع نعم ، والنعم مختصة بثلاثة أنواع : الإبل والبقر والغنم وقال الهروي : النعم تذكر وتؤنث ، وإذا جمع انطلق على الإبل والبقر والغنم " . وظاهر هذا أنه قبل جمعه على " أنعام "لا يطلق على الثلاثة الأنواع ، بل يختص بواحد منها ، وهذا الظاهر الذي أشرت إليه قد صرح به الفراء فقال : " النعم الإبل فقط ، وهو مذكر ولا يؤنث تقول : "هذا نعم وارد ، وهو جمع لا واحد له من لفظه " وقال ابن قتيبة : "الأنعام : الإبل والبقر والغنم ، واحده نعم ، وهو جمع لا واحد له من لفظه ، سميت بذلك لنعومة مشيها ولينها " ، وعلى الجملة فالاشتقاق في أسماء الأجناس قليل جدا .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : والحرث قد تقدم تفسيره ، وهو هنا مصدر واقع موقع المفعول به ، فلذلك وحد ولم يجمع كما جمعت أخواته . ويجوز إدغام الثاء في الذال وإن كان بعض الناس ضعفه بأنه يلزم الجمع بين ساكنين والأول ليس حرف لين ، قال : "بخلاف " يلهث ذلك "حيث أدغم الثاء في الذال لانتفاء التقاء الساكنين ، إذ الهاء قبل الثاء متحركة " .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد تضمنت هذه الآية الكريمة أنواعا من الفصاحة والبلاغة فمنها : الإتيان بها مجملة ، ومنها : جعله لها نفس الشهوات مبالغة في التنفير عنها ، ومنها : البداءة بالأهم فالأهم ، فقدم أولا النساء لأنهن أكثر امتزاجا ومخالطة بالإنسان ، وهن حبائل الشيطان ، قال عليه السلام : " ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء " " ما رأيت من ناقصات عقل ودين أسلب للب الرجل منكن " ويروى : "الحازم منكن " . وقيل : "فيهن فتنتان ، وفي البنين [ ص: 62 ] فتنة واحدة ؛ وذلك أنهن يقطعن الأرحام والصلات بين الأهل غالبا وهن سبب في جمع المال من حلال وحرام غالبا ، والأولاد يجمع لأجلهم المال ، فلذلك ثنى بالبنين ، وفي الحديث : " الولد مبخلة مجبنة " ، ولأنهم فروع منهن وثمرات نشأن عنهن ، وفي كلامهم : " المرء مفتون بولده " . وقدمت على الأموال لأنها أحب إلى المرء من ماله ، وأما تقديم المال على الولد في بعض المواضع فإنما ذلك في سياق امتنان وإنعام أو نصرة ومعاونة وغلبة ، لأن الرجال تستمال بالأموال ، ثم أتى بذكر تمام اللذة وهو المركوب البهي من بين سائر الحيوانات ، ثم أتى بذكر ما يحصل به جمال حين تريحون وحين تسرحون ، كما تشهد به الآية الأخرى ، ثم ذكر ما به قوامهم وحياة بنيهم وهو الزروع والثمار ، ويشمل الفواكه أيضا ، ومنها : الإتيان بلفظ يشعر بشدة حب هذه الأشياء حيث قال : " زين " ، والزينة محبوبة في الطباع .

                                                                                                                                                                                                                                      ومنها : بناء الفعل للمفعول ؛ لأن الغرض الإعلام بحصول ذلك . ومنها : إضافة الحب للشهوات ، والشهوات هي الميل والنزوع إلى الشيء . ومنها التجنيس : "القناطير المقنطرة " . ومنها : الجمع بين ما يشبه المطابقة في قوله : "والذهب والفضة " لأنهما صارا متقابلين في غالب العرف . ومنها : وصف القناطير بالمقنطرة الدالة على تكثيرها مع كثرتها في ذاتها . ومنها : ذكر هذا الجنس بمادة الخيل لما في اللفظ من الدلالة على تحسينه ، ولم يقل : الأفراس ، وكذا قوله : "والأنعام " ولم يقل الإبل والبقر والغنم ، ولأنه أخصر .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : ذلك متاع الإشارة بـ "ذلك " للمذكور المتقدم ، فلذلك وحد اسم [ ص: 63 ] الإشارة ، والمشار إليه متعدد كقوله تعالى : عوان بين ذلك ، وقد تقدم شيئان .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : المآب هو مفعل من : آب يؤوب أي رجع ، والأصل : مأوب فنقلت حركة الواو إلى الهمزة الساكنة قبلها ، فقلبت الواو ألفا ، وهو هنا اسم مصدر أي : حسن الرجوع ، وقد يقع اسم مكان أو زمان ، تقول : آب يؤوب أوبا وإيابا ومآبا ، فالأوب والإياب مصدران والمآب اسم لهما .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية