الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              4010 [ ص: 214 ] باب: الاستئذان والسلام

                                                                                                                              وقال النووي: (باب الاستئذان) .

                                                                                                                              (حديث الباب)

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم \النووي، ص134 ج14، المطبعة المصرية

                                                                                                                              [عن أبي بردة؛ عن أبي موسى الأشعري؛ قال: جاء أبو موسى إلى عمر بن الخطاب فقال: السلام عليكم. هذا عبد الله بن قيس. فلم يأذن له. فقال: السلام عليكم. هذا أبو موسى. السلام عليكم. هذا الأشعري. ثم انصرف. فقال ردوا علي. ردوا علي. فجاء. فقال: يا أبا موسى! ما ردك؟ كنا في شغل. قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الاستئذان ثلاث. فإن أذن لك، وإلا فارجع" . قال: لتأتيني على هذا ببينة، وإلا فعلت وفعلت. فذهب أبو موسى.

                                                                                                                              قال عمر: إن وجد بينة؛ تجدوه عند المنبر عشية. وإن لم يجد بينة؛ فلم تجدوه. فلما أن جاء بالعشي؛ وجدوه. قال: يا أبا موسى! ما تقول؟ أقد وجدت؟ قال: نعم. أبي بن كعب. قال: عدل. قال: يا أبا الطفيل! ما يقول هذا؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك، يا ابن الخطاب! فلا تكونن عذابا على أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم. قال: سبحان الله! إنما سمعت شيئا، فأحببت أن أتثبت ].

                                                                                                                              [ ص: 215 ]

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              [ ص: 215 ] (الشرح)

                                                                                                                              (عن أبي بردة، عن أبي موسى الأشعري، قال: جاء أبو موسى إلى عمر بن الخطاب) رضي الله عنه؛ (فقال: السلام عليكم. هذا عبد الله بن قيس. فلم يأذن له. فقال: السلام عليكم. هذا أبو موسى. السلام عليكم. هذا الأشعري. ثم انصرف) . قال الحافظ: ويؤخذ من صنيعه هذا؛ حيث ذكر اسمه أولا، وكنيته ثانية، ونسبه ثالثا: أن الأولى هي الأصل. والثانية إذا جوز: أن يكون التبس على من استأذن عليه. والثالثة: إذا غلب على ظنه، أنه ما عرفه.

                                                                                                                              قال ابن عبد البر: وذهب بعضهم: إلى أن أصل الثلاث؛ في الاستئذان: قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات . قال: وهذا غير معروف؛ في تفسيرها. وإنما أطبق الجمهور: على أن المراد بالثلاث: الأوقات. انتهى. قلت: ولا مانع من إرادة الجميع.

                                                                                                                              (فقال: ردوا علي. ردوا علي. فجاء، فقال: يا أبا موسى! ما ردك؟ كنا في شغل) . فيه: أن لصاحب المنزل إذا سمع الاستئذان: أن لا يأذن، سواء سلم مرتين، أم ثلاثا، إذا كان في [ ص: 216 ] شغل له، ديني أو دنيوي: يعذر بترك الإذن معه للمستأذن.

                                                                                                                              (قال: سمعت رسول الله، صلى الله عليه) وآله (وسلم؛ يقول: "الاستئذان: ثلاث، فإن أذن لك، وإلا فارجع") . والاستئذان: طلب الإذن في الدخول، بمحل يملكه الإنسان".

                                                                                                                              (قال: لتأتيني على هذا ببينة، وإلا فعلت وفعلت") .

                                                                                                                              وفيه: أن العالم المتبحر، قد يخفى عليه من العلم؛ ما يعلمه من هو دونه. ولا يقدح ذلك في وصفه بالعلم، والتبحر فيه. قال ابن بطال: وإذا جاز ذلك على عمر: فما ظنك بمن هو دونه؟

                                                                                                                              (فذهب أبو موسى. قال عمر) رضي الله عنه: (إن وجد بينة، تجدوه عند المنبر عشية. وإن لم يجد بينة؛ فلم تجدوه. فلما أن جاء بالعشي؛ وجدوه قال: يا أبا موسى! ما تقول؟ أقد وجدت؟ قال: نعم. أبي بن كعب. قال: عدل. قال: يا أبا الطفيل! ما يقول هذا؟ قال: سمعت رسول الله، صلى الله عليه) وآله (وسلم؛ يقول ذلك، يا ابن الخطاب! فلا تكونن عذابا على أصحاب رسول [ ص: 217 ] الله، صلى الله عليه) وآله (وسلم. قال: سبحان الله! إنما سمعت شيئا، فأحببت أن أتثبت) .

                                                                                                                              قال النووي: أجمع العلماء: على أن الاستئذان مشروع. وتظاهرت به: دلائل القرآن والسنة، وإجماع الأمة. قال: والسنة: أن يسلم، ويستأذن ثلاثا، فيجمع بين السلام والاستئذان؛ كما صرح به في القرآن. واختلفوا في أنه: هل يستحب تقديم السلام، ثم الاستئذان؟ أو العكس؟ والصحيح: الذي جاءت به السنة، وقاله المحققون: أنه يقدم السلام. فيقول: السلام عليكم. أدخل؟. وصح عنه؛ صلى الله عليه وآله وسلم: حديثان، في تقديم السلام. وأما إذا استأذن ثلاثا فلم يؤذن له، وظن أنه لم يسمعه: ففيه ثلاثة مذاهب؛ أشهرها: أنه ينصرف، ولا يعيد الاستئذان؛ لظاهر الحديث. وقد تعلق بهذا الحديث: من يقول: لا يحتج بخبر الواحد. وزعم أن "عمر" رضي الله عنه: رد حديث أبي موسى هذا؛ لكونه خبر واحد. وهذا مذهب باطل. وقد أجمع من يعتد به: على الاحتجاج بخبر الواحد، ووجوب العمل به. ودلائله؛ من فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، والخلفاء الراشدين، وسائر [ ص: 218 ] الصحابة، ومن بعدهم: أكثر من أن تحصر. وقول عمر له: لتأتيني على هذا ببينة؛ ليس معناه رد خبر الواحد، من حيث هو هو. ولكن خاف "عمر" مسارعة الناس إلى القول على النبي، صلى الله عليه وآله وسلم؛ حتى يقول عليه بعض المبتدعين، أو الكاذبين، أو المنافقين، ونحوهم: ما لم يقل. وأن كل من وقعت له قضية: وضع فيها حديثا على النبي، صلى الله عليه وآله وسلم. فأراد سد الباب، خوفا من غير أبي موسى، لا شكا في روايته؛ فإنه عند عمر: أجل من أن يظن به: أن يحدث عن النبي، صلى الله عليه وآله وسلم؛ ما لم يقل. بل أراد زجر غيره، بطريقه، فإن من دون أبي موسى؛ إذا رأى هذه القضية، أو بلغته، وكان في قلبه مرض، أو أراد وضع حديث: خاف من مثل قضية "أبي موسى"، فامتنع من وضع الحديث، والمسارعة إلى الرواية؛ بغير يقين. ومما يدل، على أن "عمر" لم يرد خبر "أبي موسى" لكونه خبر واحد: أنه طلب منه: إخبار رجل آخر، حتى يعمل بالحديث. ومعلوم: أن خبر الاثنين: خبر واحد. وكذا: ما زاد، حتى يبلغ التواتر. فما لم يبلغ التواتر: فهو خبر واحد. ومما يؤيده أيضا، قوله: "سبحان الله!" [ ص: 219 ] إلى آخره. انتهى. قلت: وقد جاء في بعض طرق هذا الحديث: أن عمر قال لأبي موسى: أما إني لم أتهمك، ولكني أردت: أن لا يتجرأ الناس على الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وفي لفظ: (ولكن خشيت أن يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم) . وفي آخر: (إن كنت لأمينا على حديث رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن أحببت أن أستثبت) .

                                                                                                                              قال ابن بطال: يؤخذ منه: التثبت في خبر الواحد؛ لما يجوز عليه من السهو، وغيره. وقد قبل عمر، رضي الله عنه: خبر العدل الواحد، بمفرده: في توريث المرأة، من دية زوجها. وأخذ الجزية من المجوس. إلى غير ذلك. لكنه يستثبت؛ إذا وقع ما يقتضي له ذلك.

                                                                                                                              قال ابن العربي: واختلف في طلب "عمر" من "أبي موسى": البينة؛ على عشرة أقوال. ثم ذكرها. وغالبها متداخل.

                                                                                                                              واستدل بهذا الحديث: على أنه: لا تجوز الزيادة في الاستئذان على الثلاث.

                                                                                                                              قال ابن عبد البر: ذهب أكثر أهل العلم إلى ذلك. وقال بعضهم: إذا لم يسمع، فلا بأس أن يزيد.

                                                                                                                              قال الحافظ: وهذا هو الأصح، عند الشافعية. وجوزه "ابن عبد [ ص: 220 ] البر". على أن الأمر بالرجوع "بعد الثلاث": للإباحة، والتخفيف على المستأذن. فمن استأذن أكثر، فلا حرج عليه.




                                                                                                                              الخدمات العلمية