الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (15) قوله تعالى : قل أأنبئكم : قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية بين بين ، على ما عرف من قواعدهم في أول البقرة ، والباقون بالتخفيف فيهما . ومد بين هاتين الهمزتين بلا خلاف قالون عن نافع ، وأبو عمرو وهشام عن ابن عامر بخلاف عنهما ، والباقون بغير مد ، وهم على أصولهم من تحقيق وتسهيل ، وورش على أصله من نقل حركة الهمزة إلى لام "قل " .

                                                                                                                                                                                                                                      واعلم أنه لا بد من ذكر اختلاف القراء في هذه اللفظة وشبهها وتحرير مذاهبهم فإنه موضع عسر الضبط فأقول بعون الله تعالى : الوارد من ذلك القرآن الكريم ثلاثة مواضع : أعني همزتين أولاهما مفتوحة والثانية مضمومة من كلمة واحدة ، الأول هذا الموضع ، والثاني في ص : أأنزل عليه الذكر من بيننا ، الثالث في القمر : أألقي الذكر عليه . والقراء فيها على خمس مراتب ، إحداها : مرتبة قالون ، وهي تسهيل الثانية بين بين ، وإدخال ألف بين الهمزتين بلا خلاف كذا رواه عن نافع . الثانية : مرتبة ورش وابن كثير ، وهي [ ص: 64 ] تسهيل الثانية أيضا بين بين من غير إدخال ألف بين الهمزتين بلا خلاف كذا روى ورش عن نافع . الثالثة : مرتبة الكوفيين وابن ذكوان عن ابن عامر وهي تحقيق الثانية من غير إدخال ألف بلا خلاف ، كذا روى ابن ذكوان عن ابن عامر . الرابعة : مرتبة هشام ، وهي أنه روي عنه ثلاثة أوجه : الأول التحقيق وعدم إدخال ألف بين الهمزتين في ثلاث السور . الوجه الثاني : التحقيق وإدخال ألف بينهما في ثلاث السور . والوجه الثالث : التفرقة بين السور الثلاث ، وهو أنه يحقق ويقصر في هذه السورة ، ويسهل ويمد في السورتين الأخريين . الخامسة : مرتبة أبي عمرو وهي تسهيل الثانية مع إدخال الألف وعدمه . واجتزأت عن تعليل التخفيف والمد والقصر واعزا كل واحد منها إلى لغة من تكلم به بما قدمته في أول البقرة ، ولله الحمد .

                                                                                                                                                                                                                                      ونقل أبو البقاء أنه قرئ : "أونبئكم " بواو خالصة بعد الهمزة لانضمامها ، وليس ذلك بالوجه . وفي قوله "أؤنبئكم " التفات من الغيبة في قوله : "للناس " إلى الخطاب تشريفا لهم .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : بخير متعلق بالفعل ، وهذا الفعل لما لم يضمن معنى "أعلم " تعدى لاثنين ، الأول تعدى إليه بنفسه وإلى الثاني بالحرف ، ولو ضمن معناها لتعدى إلى ثلاثة .

                                                                                                                                                                                                                                      و من ذلكم متعلق بخير ؛ لأنه على بابه من كونه أفعل تفضيل ، والإشارة بذلكم إلى ما تقدم من ذكر الشهوات ، وتقدم تسويغ الإشارة بالمفرد إلى الجمع . ولا يجوز أن تكون "خير " ليست للتفضيل ، ويكون المراد به خيرا من الخيور ، وتكون "من " صفة لقوله : "خير " . قال أبو البقاء : "من " في [ ص: 65 ] موضع نصب بخير تقديره : بما يفضل ذلك ، ولا يجوز أن تكون صفة لخير ؛ لأن ذلك يوجب أن تكون الجنة وما فيها مما رغبوا فيه بعضا لما زهدوا فيه من الأموال ونحوها "وتابعه على ذلك الشيخ " .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : للذين اتقوا [يجوز فيه أربعة أوجه ، أحدها : أنه متعلق بخير ، ويكون الكلام قد تم هنا ] ويرتفع "جنات " على خبر مبتدأ محذوف تقديره : هو جنات ، أي : ذلك الذي هو خير مما تقدم جنات ، والجملة بيان وتفسير للخيرية ، ومثله : قل أفأنبئكم بشر من ذلكم ثم قال : النار وعدها الله الذين كفروا ، ويؤيد ذلك قراءة "جنات " بكسر التاء على أنها بدل من "بخير " فهي بيان للخير . والثاني : أن الجار خبر مقدم ، و "جنات " مبتدأ مؤخر ، أو يكون "جنات " فاعلا بالجار قبله ، وإن لم يعتمد عند من يرى ذلك . وعلى هذين التقديرين فالكلام تم عند قوله : "من ذلكم " ، ثم ابتدأ بهذه الجملة وهي أيضا مبينة ومفسرة للخيرية .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما الوجهان الآخران فذكرهما مكي مع جر "جنات " ، يعني أنه لم يجز الوجهين ، إلا إذا جررت "جنات " بدلا من "بخير " . الوجه الأول : أنه متعلق بأؤنبئكم . الوجه الثاني : أنه صفة لخير . ولا بد من إيراد نصه فإن فيه إشكالا .

                                                                                                                                                                                                                                      قال رحمه الله : - بعد أن ذكر أن "للذين " خبر مقدم و "جنات " مبتدأ - "ويجوز الخفض في " جنات "على البدل من " بخير "على أن تجعل اللام في " للذين "متعلقة بأؤنبئكم ، أو تجعلها صفة لخير ، ولو جعلت اللام متعلقة [ ص: 66 ] بمحذوف قامت مقامه لم يجز خفض " جنات " ؛ لأن حروف الجر والظروف إذا تعلقت بمحذوف ، وقامت مقامه صار فيها ضمير مقدر مرفوع ، واحتاجت إلى ابتداء يعود إليه ذلك الضمير كقولك : " لزيد مال ، وفي الدار رجل وخلفك عمرو "فلا بد من رفع " جنات "إذا تعلقت اللام بمحذوف ، ولو تعلقت بمحذوف على أن لا ضمير فيها لرفعت " جنات "بفعلها ، وهو مذهب الأخفش في رفعه ما بعد الظروف وحروف الخفض بالاستقرار ، وإنما يحسن ذلك عند حذاق النحويين إذا كانت الظروف أو حروف الخفض صفة لما قبلها ، فحينئذ يتمكن ويحسن رفع الاسم بالاستقرار ، وقد شرحنا لك وبيناه في أمثلة ، وكذلك إذا كانت أحوالا [مما قبلها ] " . انتهى فقد جوز تعلق هذه اللام بأونبئكم أو بمحذوف على أنها صفة لخير بشرط أن تجر "جنات " ، على البدل من "بخير " ، وظاهره أنه لا يجوز ذلك مع رفع "جنات " وعلل ذلك بأن حروف الجر تعلق بمحذوف وتحمل الضمير ، فوجب أن يؤتى له بمبتدأ وهو "جنات " ، وهذا الذي قاله من هذه الحيثية لا يلزم ، إذ لقائل أن يقول : أجوز تعليق اللام بما ذكرت من الوجهين مع رفع "جنات " على أنها خبر مبتدأ محذوف ، لا على الابتداء حتى يلزم ما ذكرت . ولكن الوجهان ضعيفان من جهة أخرى : وهو أن المعنى ليس واضحا على ما ذكر ، مع أن جعله أن اللام صفة لخير أقوى من جعلها متعلقة بأؤنبئكم إذ لا معنى له . وقوله : "في الظروف وحروف الجر أنها عند الحذاق إنما ترفع الفاعل إذا كانت صفات " وقوله : "وكذلك إذ كن أحوالا " فيه قصور ؛ لأن هذا الحكم مستقر لها في مواضع ، منها الموضعان اللذان ذكرهما . ثالثهما : أن يقعا صلة . رابعها : أن يقعا خبرا لمبتدأ . خامسها : أن يعتمدا على نفي . سادسها : أن يعتمدا على استفهام ، وقد تقدم تحرير هذا ، وإنما أعدته لبعد عهده .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : عند ربهم فيه أربعة أوجه ، أحدها : أنه في محل نصب على [ ص: 67 ] الحال من "جنات " لأنه في الأصل صفة لها ، فلما قدم نصب حالا . الثاني : أنه متعلق بما تعلق به "للذين " من الاستقرار إذا جعلناه خبرا أو رافعا لجنات بالفاعلية ، أما إذا علقته بـ "خير " أو بـ "أؤنبئكم " فلا ، لعدم تضمنه الاستقرار . الثالث : أن يكون معمولا لتجري ، وهذا لا يساعد عليه المعنى . الرابع : أنه متعلق بخير ، كما تعلق به "للذين " على قول تقدم . ويضعف أن يكون الكلام قد تم عند قوله "للذين اتقوا " ثم يبتدأ بقوله : عند ربهم جنات على الابتداء والخبر ، وتكون الجملة مبينة ومفسرة للخيرية كما تقدم في غيرها .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ يعقوب "جنات " بكسر التاء ، وفيها ثلاثة أوجه ، أحدها : أنها بدل من لفظ "خير " فتكون مجرورة ، وهي بيان له كما تقدم . والثاني أنها بدل من محل "بخير " ومحله النصب ، وهو في المعنى كالأول . الثالث : أنه منصوب بإضمار أعني ، وهو نظير الوجه الصائر إلى رفعه على خبر ابتداء مضمر .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : تجري صفة لجنات ، فهو في محل رفع أو نصب أو جر على حسب القراءتين والتخاريج فيهما . و من تحتها متعلق بتجري ، وجوز فيه أبو البقاء أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من الأنهار قال : "أي : تجري الأنهار كائنة تحتها " ، وهذا يشبه تهيئة العامل للعمل في شيء وقطعه عنه .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : خالدين حال مقدرة ، وصاحبها الضمير المستكن في "للذين " والعامل فيها حينئذ الاستقرار المقدر . وقال أبو البقاء : "إن شئت من الهاء في " تحتها " . وهذا الذي ذكره إنما يتمشى على مذهب الكوفيين ، وذلك أن [ ص: 68 ] جعلها حالا من " ها "في " تحتها "يؤدي إلى جريان الصفة على غير من هي له في المعنى ، لأن الخلود من أوصاف الداخلين في الجنة لا من أوصاف الجنة ، ولذلك جمع هذه الحال جمع العقلاء ، فكان ينبغي أن يؤتى بضمير مرفوع بارز ، هو الذي كان مستترا في الصفة ، نحو : " زيد هند ضاربها هو " ، والكوفيون يقولون : إن أمن اللبس كهذا لم يجب بروز الضمير ، وإلا يجب ، والبصريون لا يفرقون ، وتقدم البحث في ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : وأزواج مطهرة ورضوان من رفع "جنات " كما هو المشهور كان عطف "أزواج " و "رضوان " سهلا . ومن كسر التاء فيجب حينئذ على قراءته أن يكون مرفوعا على أنه مبتدأ خبره مضمر ، تقديره : ولهم أزواج ولهم رضوان ، وتقدم الكلام على أزواج مطهرة في البقرة .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي "رضوان " لغتان : ضم الراء وهي لغة تميم ، والكسر وهي لغة الحجاز ، وبها قرأ العامة إلا أبا بكر عن عاصم فإنه قرأ بلغة تميم في جميع القرآن ، إلا في الثانية من سورة المائدة ، وهي : من اتبع رضوانه فبعضهم نقل عنه الجزم بكسرها ، وبعضهم نقل عنه الخلاف فيها خاصة .

                                                                                                                                                                                                                                      وهل هما بمعنى واحد أو بينهما فرق ؟ قولان ، أحدهما : أنهما مصدران بمعنى واحد لرضي يرضى . والثاني : أن المكسور اسم ومنه : رضوان خازن الجنة صلى الله على نبينا وعلى أنبيائه وملائكته ، والمضموم هو المصدر . و "من الله " صفة لرضوان .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية