الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : وأرجلكم إلى الكعبين ، في قوله : وأرجلكم ثلاث قراءات : واحدة شاذة ، واثنتان متواترتان .

                                                                                                                                                                                                                                      أما الشاذة : فقراءة الرفع ، وهي قراءة الحسن ; وأما المتواترتان : فقراءة النصب ، وقراءة الخفض .

                                                                                                                                                                                                                                      أما النصب : فهو قراءة نافع ، وابن عامر ، والكسائي ، وعاصم في رواية حفص من السبعة ، ويعقوب من الثلاثة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما الجر : فهو قراءة ابن كثير ، وحمزة ، وأبي عمرو ، وعاصم ، وفي رواية أبي بكر .

                                                                                                                                                                                                                                      أما قراءة النصب : فلا إشكال فيها ، لأن الأرجل فيها معطوفة على الوجوه ، وتقرير المعنى عليها : فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق ، وأرجلكم إلى الكعبين وامسحوا برءوسكم .

                                                                                                                                                                                                                                      وإنما أدخل مسح الرأس بين المغسولات محافظة على الترتيب ، لأن الرأس يمسح بين المغسولات ; ومن هنا أخذ جماعة من العلماء وجوب الترتيب في أعضاء الوضوء حسبما في الآية الكريمة .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما على قراءة الجر : ففي الآية الكريمة إجمال ، وهو أنها يفهم منها الاكتفاء بمسح الرجلين في الوضوء عن الغسل كالرأس ، وهو خلاف الواقع للأحاديث الصحيحة الصريحة في وجوب غسل الرجلين في الوضوء والتوعد بالنار لمن ترك ذلك ، كقوله - صلى الله عليه وسلم - : " ويل للأعقاب من النار " .

                                                                                                                                                                                                                                      اعلم أولا ، أن القراءتين إذا ظهر تعارضهما في آية واحدة لهما حكم الآيتين ، كما هو معروف عند العلماء ، وإذا علمت ذلك فاعلم أن قراءة : وأرجلكم ، بالنصب صريح في وجوب غسل الرجلين في الوضوء ، فهي تفهم أن قراءة الخفض إنما هي لمجاورة المخفوض مع أنها في الأصل منصوبة بدليل قراءة النصب ، والعرب تخفض الكلمة لمجاورتها للمخفوض ، مع أن إعرابها النصب ، أو الرفع .

                                                                                                                                                                                                                                      وما ذكره بعضهم من أن الخفض بالمجاورة معدود من اللحن الذي يتحمل [ ص: 331 ] لضرورة الشعر خاصة ، وأنه غير مسموع في العطف ، وأنه لم يجز إلا عند أمن اللبس ، فهو مردود بأن أئمة اللغة العربية صرحوا بجوازه .

                                                                                                                                                                                                                                      وممن صرح به الأخفش ، وأبو البقاء ، وغير واحد .

                                                                                                                                                                                                                                      ولم ينكره إلا الزجاج ، وإنكاره له ، مع ثبوته في كلام العرب ، وفي القرآن العظيم ، يدل على أنه لم يتتبع المسألة تتبعا كافيا .

                                                                                                                                                                                                                                      والتحقيق : أن الخفض بالمجاورة أسلوب من أساليب اللغة العربية ، وأنه جاء في القرآن لأنه بلسان عربي مبين .

                                                                                                                                                                                                                                      فمنه في النعت قول امرئ القيس : [ الطويل ]


                                                                                                                                                                                                                                      كأن ثبيرا في عرانين ودقه كبير أناس في بجاد مزمل

                                                                                                                                                                                                                                      بخفض " مزمل " بالمجاورة ، مع أنه نعت " كبير " المرفوع بأنه خبر " كأن " وقول ذي الرمة : [ البسيط ]


                                                                                                                                                                                                                                      تريك سنة وجه غير مقرفة     ملساء ليس بها خال ولا ندب



                                                                                                                                                                                                                                      إذ الرواية بخفض " غير " ، كما قاله غير واحد للمجاورة ، مع أنه نعت " سنة " المنصوب بالمفعولية .

                                                                                                                                                                                                                                      ومنه في العطف ، قول النابغة : [ البسيط ]


                                                                                                                                                                                                                                      لم يبق إلا أسير غير منفلت     وموثق في حبال القد مجنوب



                                                                                                                                                                                                                                      بخفض " موثق " لمجاورته المخفوض ، مع أنه معطوف على " أسير " المرفوع بالفاعلية .

                                                                                                                                                                                                                                      وقول امرئ القيس : [ الطويل ]


                                                                                                                                                                                                                                      وظل طهاة اللحم ما بين منضج     صفيف شواء أو قدير معجل



                                                                                                                                                                                                                                      بجر " قدير " لمجاورته للمخفوض ، مع أنه عطف على " صفيف " المنصوب بأنه مفعول اسم الفاعل الذي هو " منضج " ، والصفيف : فعيل بمعنى مفعول وهو المصفوف من اللحم على الجمر لينشوي ، والقدير : كذلك فعيل بمعنى مفعول ، وهو المجعول في القدر من اللحم لينضج بالطبخ .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 332 ] وهذا الإعراب الذي ذكرناه هو الحق ، لأن الإنضاج واقع على كل من الصفيف والقدير ، فما زعمه " الصبان " في حاشيته على " الأشموني " من أن قوله " أو قدير " معطوف على " منضج " بتقدير المضاف أي وطابخ قدير . . . الخ ، ظاهر السقوط ; لأن المنضج شامل لشاوي الصفيف ، وطابخ القدير ، فلا حاجة إلى عطف الطابخ على المنضج لشموله له ، ولا داعي لتقدير " طابخ " محذوف .

                                                                                                                                                                                                                                      وما ذكره العيني من أنه معطوف على " شواء " ، فهو ظاهر السقوط أيضا ; وقد رده عليه " الصبان " ، لأن المعنى يصير بذلك : وصفيف قدير ، والقدير لا يكون صفيفا .

                                                                                                                                                                                                                                      والتحقيق : هو ما ذكرنا من الخفض بالمجاورة ، وبه جزم ابن قدامة في المغني .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن الخفض بالمجاورة في العطف ، قول زهير : [ الكامل ]


                                                                                                                                                                                                                                      لعب الزمان بها وغيرها     بعدي سوافي المور والقطر



                                                                                                                                                                                                                                      بجر " القطر " لمجاورته للمخفوض مع أنه معطوف على " سوافي " المرفوع ، بأنه فاعل غير .

                                                                                                                                                                                                                                      ومنه في التوكيد قول الشاعر : [ البسيط ]


                                                                                                                                                                                                                                      يا صاح بلغ ذوي الزوجات كلهم     أن ليس وصل إذا انحلت عرى الذنب



                                                                                                                                                                                                                                      بجر " كلهم " على ما حكاه الفراء ، لمجاورة المخفوض ، مع أنه توكيد " ذوي " المنصوب بالمفعولية .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن أمثلته في القرآن العظيم في العطف - كالآية التي نحن بصددها - قوله تعالى : وحور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون [ 56 \ 22 ] ، على قراءة حمزة ، والكسائي .

                                                                                                                                                                                                                                      ورواية المفضل عن عاصم بالجر لمجاورته لأكواب وأباريق ، إلى قوله : ولحم طير مما يشتهون [ 56 \ 21 ] ، مع أن قوله : وحور عين ، حكمه الرفع ، فقيل : إنه معطوف على فاعل " يطوف " الذي هو ولدان مخلدون [ 56 \ 17 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      وقيل : هو مرفوع على أنه مبتدأ خبره محذوف ، دل المقام عليه .

                                                                                                                                                                                                                                      أي : وفيها حور عين ، أو لهم حور عين .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 333 ] وإذن فهو من العطف بحسب المعنى .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد أنشد سيبويه للعطف على المعنى قول الشماخ ، أو ذي الرمة : [ الكامل ]


                                                                                                                                                                                                                                      بادت وغير آيهن مع البلا     إلا رواكد جمرهن هباء
                                                                                                                                                                                                                                      ومشجج أما سواء قذاله     فبدا وغيب ساره المعزاء



                                                                                                                                                                                                                                      لأن الرواية بنصب " رواكد " على الاستثناء ، ورفع مشجج عطفا عليه ; لأن المعنى لم يبق منها إلا رواكد ومشجج ، ومراده بالرواكد أثافي القدر ، وبالمشجج وتد الخباء ، وبه تعلم أن وجه الخفض في قراءة حمزة ، والكسائي هو المجاورة للمخفوض ، كما ذكرنا خلافا لمن قال في قراءة الجر : إن العطف على أكواب ، أي يطاف عليهم بأكواب ، وبحور عين ، ولمن قال : إنه معطوف على جنات النعيم ، أي هم في جنات النعيم ، وفي حور على تقدير حذف مضاف ، أي في معاشرة حور .

                                                                                                                                                                                                                                      ولا يخفى ما في هذين الوجهين ، لأن الأول يرد ، بأن الحور العين لا يطاف بهن مع الشراب ، لقوله تعالى :حور مقصورات في الخيام [ 55 \ 72 ] .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني فيه أن كونهم في جنات النعيم ، وفي حور ظاهر السقوط كما ترى ، وتقدير ما لا دليل عليه لا وجه له .

                                                                                                                                                                                                                                      وأجيب عن الأول بجوابين ، الأول : أن العطف فيه بحسب المعنى ، لأن المعنى : يتنعمون بأكواب وفاكهة ولحم وحور . قاله الزجاج وغيره .

                                                                                                                                                                                                                                      الجواب الثاني : أن الحور قسمان :

                                                                                                                                                                                                                                      1 - حور مقصورات في الخيام .

                                                                                                                                                                                                                                      2 - وحور يطاف بهن عليهم

                                                                                                                                                                                                                                      قاله الفخر الرازي وغيره ، وهو تقسيم لا دليل عليه ، ولا يعرف من صفات الحور العين كونهن يطاف بهن كالشراب ، فأظهرها الخفض بالمجاورة ، كما ذكرنا .

                                                                                                                                                                                                                                      وكلام الفراء ، وقطرب ، يدل عليه ، وما رد به القول بالعطف على أكواب من كون الحور لا يطاف بهن يرد به القول بالعطف على ولدان مخلدون ، في قراءة الرفع ; لأنه يقتضي أن الحور يطفن عليهم كالولدان ، والقصر في الخيام ينافي ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      وممن جزم بأن خفض وأرجلكم ; لمجاورة المخفوض البيهقي في " السنن [ ص: 334 ] الكبرى " ، فإنه قال ما نصه : باب قراءة من قرأ " وأرجلكم " نصبا ، وأن الأمر رجع إلى الغسل ، وأن من قرأها خفضا ، فإنما هو للمجاورة ، ثم ساق أسانيده إلى ابن عباس ، وعلي ، وعبد الله بن مسعود ، وعروة بن الزبير ، ومجاهد ، وعطاء ، والأعرج ، وعبد الله بن عمرو بن غيلان ، ونافع بن عبد الرحمن بن أبي نعيم القارئ ، وأبي محمد يعقوب بن إسحاق بن يزيد الحضرمي أنهم قرءوها كلهم : وأرجلكم ، بالنصب .

                                                                                                                                                                                                                                      قال : وبلغني عن إبراهيم بن يزيد التيمي أنه كان يقرؤها نصبا ، وعن عبد الله بن عامر اليحصبي ، وعن عاصم برواية حفص ، وعن أبي بكر بن عياش من رواية الأعشى ، وعن الكسائي ، كل هؤلاء نصبوها .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن خفضها فإنما هو للمجاورة ، قال الأعمش : كانوا يقرءونها بالخفض ، وكانوا يغسلون ، اهـ كلام البيهقي .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن أمثلة الخفض بالمجاورة في القرآن في النعت قوله تعالى : عذاب يوم محيط [ 11 \ 84 ] ، بخفض محيط مع أنه نعت للعذاب . وقوله تعالى : عذاب يوم أليم [ 11 \ 26 ] ، ومما يدل أن النعت للعذاب ، وقد خفض للمجاورة ، كثرة ورود الألم في القرآن نعتا للعذاب . وقوله تعالى : بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ [ 85 \ 22 ] ، على قراءة من قرأ بخفض محفوظ كما قاله القرطبي ومن كلام العرب : " هذا جحر ضب خرب " بخفض خرب لمجاورة المخفوض مع أنه نعت خبر المبتدأ ; وبهذا تعلم أن دعوى كون الخفض بالمجاورة لحنا لا يتحمل إلا لضرورة الشعر باطلة ، والجواب عما ذكروه من أنه لا يجوز إلا عند أمن اللبس ، هو أن اللبس هنا يزيله التحديد بالكعبين ، إذ لم يرد تحديد الممسوح ، وتزيله قراءة النصب ، كما ذكرنا ، فإن قيل قراءة الجر الدالة على مسح الرجلين في الوضوء هي المبينة لقراءة النصب بأن تجعل قراءة النصب عطفا على المحل ; لأن الرءوس مجرورة بالباء في محل نصب على حد قول ابن مالك في الخلاصة : [ الرجز ]


                                                                                                                                                                                                                                      وجر ما يتبع ما جر ومن     راعى في الاتباع المحل فحسن



                                                                                                                                                                                                                                      وابن مالك وإن كان أورد هذا في " إعمال المصدر " فحكمه عام ، أي وكذلك الفعل والوصف ، كما أشار له في الوصف بقوله : [ الرجز ]


                                                                                                                                                                                                                                      واجرر أو انصب تابع الذي انخفض     كمبتغي جاه ومالا من نهض


                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 335 ] فالجواب أن بيان قراءة النصب بقراءة الجر ، كما ذكر ، تأباه السنة الصريحة الصحيحة الناطقة بخلافه ، وبتوعد مرتكبه بالويل من النار بخلاف بيان قراءة الخفض بقراءة النصب ، فهو موافق لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الثابتة عنه قولا وفعلا .

                                                                                                                                                                                                                                      فقد أخرج الشيخان في صحيحيهما ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما .

                                                                                                                                                                                                                                      قال : تخلف عنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفرة سافرناها فأدركنا ، وقد أرهقتنا الصلاة صلاة العصر ونحن نتوضأ ، فجعلنا نمسح على أرجلنا ، فنادى بأعلى صوته : " أسبغوا الوضوء ، ويل للأعقاب من النار " ، وكذلك هو في الصحيحين ، عن أبي هريرة رضي الله عنه .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " أسبغوا الوضوء ، ويل للأعقاب من النار " ، وروى البيهقي والحاكم بإسناد صحيح عن عبد الله بن حارث بن جزء ، أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " ويل للأعقاب ، وبطون الأقدام من النار " ; وروى الإمام أحمد ، وابن ماجه ، وابن جرير ، عن جابر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " ويل للأعقاب من النار " .

                                                                                                                                                                                                                                      وروى الإمام أحمد عن معيقيب ، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " ويل للأعقاب من النار " ، وروى ابن جرير عن أبي أمامة ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ويل للأعقاب من النار " ، قال : فما بقي في المسجد شريف ولا وضيع إلا نظرت إليه يقلب عرقوبيه ينظر إليهما .

                                                                                                                                                                                                                                      وثبت في أحاديث الوضوء عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان ، وعلي ، وابن عباس ، ومعاوية ، وعبد الله بن زيد بن عاصم ، والمقداد بن معديكرب : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غسل الرجلين في وضوئه ، إما مرة أو مرتين أو ثلاثا " على اختلاف رواياتهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ فغسل قدميه " . ثم قال : " هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به " .

                                                                                                                                                                                                                                      والأحاديث في الباب كثيرة جدا ، وهي صحيحة صريحة في وجوب غسل الرجلين في الوضوء ، وعدم الاجتزاء بمسحهما .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية