الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
" فصل فيما يؤثر عنه من التفسير والمعاني في الطهارات والصلوات "

(أنا ) محمد بن موسى بن الفضل ، أنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، أنا الربيع بن سليمان ، أنا الشافعي - رحمه الله - قال : " قال الله جل ثناؤه : ( إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم ) إلى قوله - عز وجل - : ( فلم تجدوا ماء فتيمموا ) . قال : " وكان بينا عند من خوطب بالآية : أن غسلهم إنما يكون بالماء [ثم] أبان الله في [هذه] الآية : أن الغسل بالماء . وكان معقولا عند من خوطب بالآية : [أن الماء ما خلق الله - تبارك وتعالى - مما لا صنعة فيه للآدميين ] . وذكر الماء عاما ؛ فكان ماء السماء ، وماء الأنهار ، والآبار ، والقلات ، والبحار . العذب من جميعه ، والأجاج سواء : في أنه يطهر من توضأ واغتسل به " .

وقال في قوله - عز وجل - : ( فاغسلوا وجوهكم ) " لم أعلم مخالفا في أن الوجه المفروض غسله في الوضوء : ما ظهر دون ما بطن . وقال : وكان معقولا : أن الوجه : ما دون منابت شعر الرأس ، إلى الأذنين ، واللحيين ، والذقن " .

وفي قوله تعالى : ( وأيديكم إلى المرافق ) قال : " فلم أعلم مخالفا [في] أن المرافق فيما يغسل . كأنهم ذهبوا إلى [أن] معناها : فاغسلوا أيديكم إلى أن تغسل المرافق .

[ ص: 44 ] وفي قوله تعالى : ( وامسحوا برؤوسكم ) قال : " وكان معقولا في الآية أن من مسح من رأسه شيئا ، فقد مسح برأسه ، ولم تحتمل الآية إلا هذا - وهو أظهر معانيها - أو مسح الرأس كله قال : فدلت السنة على أن ليس على المرء مسح رأسه كله . وإذا دلت السنة على ذلك فمعنى الآية : أن من مسح شيئا من رأسه أجزأه " .

وفي قوله تعالى : ( وأرجلكم إلى الكعبين ) قال الشافعي : " نحن نقرؤها ( وأرجلكم ) على معنى : اغسلوا وجوهكم ، وأيديكم ، وأرجلكم ، وامسحوا برؤوسكم قال : ولم أسمع مخالفا في أن الكعبين - اللذين ذكر الله - عز وجل - في الوضوء - الكعبان الناتئان - وهما مجمع مفصل الساق ، والقدم - ، وأن عليهما الغسل . كأنه يذهب فيهما إلى اغسلوا أرجلكم حتى تغسلوا الكعبين " . وقال في غير هذه الرواية " والكعب إنما سمي كعبا لنتوئه في موضعه عما تحته ، وما فوقه . ويقال للشيء المجتمع من السمن ، كعب سمن ، وللوجه فيه نتوء وجه كعب ؛ والثدي إذا تناهد ، كعب " .

قال الشافعي - رحمه الله - في روايتنا عن أبي سعيد : " وأصل مذهبنا أنه يأتي بالغسل كيف شاء ، ولو قطعه ؛ لأن الله - تبارك وتعالى - قال : ( حتى تغتسلوا ) فهذا مغتسل ، وإن قطع الغسل ، فلا أحسبه يجوز - إذا قطع الوضوء - إلا مثل هذا " .

قال الشافعي - رحمه الله - : وتوضأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما أمر الله ، وبدأ بما بدأ الله به . فأشبه (والله أعلم ) أن يكون على المتوضئ في الوضوء شيئان [أن] يبدأ بما بدأ الله ، ثم رسوله - صلى الله عليه وسلم - به منه ، ويأتي على إكمال [ ص: 45 ] ما أمر به وشبهه بقول الله - عز وجل - : ( إن الصفا والمروة من شعائر الله ) . فبدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالصفا ، وقال " نبدأ بما بدأ الله به " . قال الشافعي - رحمه الله - : " وذكر الله اليدين معا ، والرجلين معا ، فأحب أن يبدأ باليمنى ، وإن بدأ باليسرى ، فقد أساء ، ولا إعادة عليه .

وفي قول الله - عز وجل - : ( إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ) قال الشافعي - رحمه الله - : " فكان ظاهر الآية أن من قام إلى الصلاة فعليه أن يتوضأ وكانت محتملة أن تكون نزلت في خاص . فسمعت بعض من أرضى علمه بالقرآن ، يزعم : أنها نزلت في القائمين من النوم ، وأحسب ما قال كما قال . لأن [في] السنة دليلا على أن يتوضأ من قام من نومه . قال الشافعي - رحمه الله - : فكان الوضوء الذي ذكره الله - بدلالة السنة - على من لم يحدث غائطا ، ولا بولا دون من أحدث غائطا أو بولا . لأنهما نجسان يماسان بعض البدن . يعني فيكون عليه الاستنجاء ، فيستنجي بالحجارة أو الماء ؛ قال ولو جمعه رجل ، ثم غسل بالماء كان أحب إلي . ويقال إن قوما من الأنصار استنجوا بالماء فنزلت فيهم : ( فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين ) قال الشافعي - رحمه الله - : ومعقول - إذ ذكر الله تعالى الغائط في آية الوضوء أن الغائط : التخلي ، فمن تخلى وجب عليه الوضوء " . ثم ذكر الحجة من غير الكتاب ، في إيجاب الوضوء بالريح ، والبول ، والمذي ، والودي ، وغير ذلك مما يخرج من سبيل الحدث .

[ ص: 46 ] وفي قوله تعالى : ( أو لامستم النساء ) قال الشافعي : " ذكر الله - عز وجل - الوضوء على من قام إلى الصلاة ، فأشبه أن يكون من قام من مضجع النوم . وذكر طهارة الجنب ، ثم قال بعد ذلك : ( وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء ، فلم تجدوا ماء فتيمموا ) . فأشبه : أن يكون أوجب الوضوء من الغائط ، وأوجبه من الملامسة ، وإنما ذكرها موصولة بالغائط بعد ذكر الجنابة ، فأشبهت الملامسة أن تكون اللمس باليد ، والقبل غير الجنابة " . ثم استدل عليه بآثار ذكرها . قال الربيع : اللمس بالكف ؛ ألا ترى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الملامسة . والملامسة : أن يلمس الرجل الثوب ، فلا يقبله وقال الشاعر :


فألمست كفي كفه أطلب الغنى ولم أدر أن الجود من كفه يعدي     فلا أنا منه ما أفاد ذوو الغنى
[أفدت] وأعداني فبددت ما عندي



هكذا وجدته في كتابي وقد رواه غيره عن الربيع عن الشافعي ، أنا أبو عبد الرحمن السلمي ، أنا : الحسين بن رشيق المصري إجازة ، أنا أحمد بن محمد بن حرير النحوي ، قال : سمعت الربيع بن سليمان يقول فذكر معناه عن الشافعي .

التالي السابق


الخدمات العلمية