الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون )

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون )

                                                                                                                                                                                                                                            في الآية مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : اعلم أنه تعالى لما ذكر الدلائل الدالة على الإلهية ، ثم فرع عليها صحة القول بالحشر والنشر ، عاد مرة أخرى إلى ذكر الدلائل الدالة على الإلهية .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن الدلائل المتقدمة في إثبات التوحيد والإلهية هي التمسك بخلق السماوات والأرض ، وهذا النوع إشارة إلى التمسك بأحوال الشمس والقمر ، وهذا النوع الأخير إشارة إلى ما يؤكد الدليل الدال على [ ص: 28 ] صحة الحشر والنشر ، وذلك لأنه تعالى أثبت القول بصحة الحشر والنشر ، بناء على أنه لا بد من إيصال الثواب إلى أهل الطاعة ، وإيصال العقاب إلى أهل الكفر ، وأنه يجب في الحكمة تمييز المحسن عن المسيء ، ثم إنه تعالى ذكر في هذه الآية أنه جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل ؛ ليتوصل المكلف بذلك إلى معرفة السنين والحساب ، فيمكنه ترتيب مهمات معاشه من الزراعة والحراثة ، وإعداد مهمات الشتاء والصيف ، فكأنه تعالى يقول : تمييز المحسن عن المسيء والمطيع عن العاصي أوجب في الحكمة من تعليم أحوال السنين والشهور . فلما اقتضت الحكمة والرحمة خلق الشمس والقمر لهذا المهم الذي لا نفع له إلا في الدنيا . فبأن تقتضي الحكمة والرحمة تمييز المحسن عن المسيء بعد الموت ، مع أنه يقتضي النفع الأبدي والسعادة السرمدية كان ذلك أولى . فلما كان الاستدلال بأحوال الشمس والقمر من الوجه المذكور في هذه الآية مما يدل على التوحيد من وجه ، وعلى صحة القول بالمعاد من الوجه الذي ذكرناه ، لا جرم ذكر الله هذا الدليل بعد ذكر الدليل على صحة المعاد .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : الاستدلال بأحوال الشمس والقمر على وجود الصانع المقدر هو أن يقال : الأجسام في ذواتها متماثلة ، وفي ماهياتها متساوية ، ومتى كان الأمر كذلك كان اختصاص جسم الشمس بضوئه الباهر وشعاعه القاهر ، واختصاص جسم القمر بنوره المخصوص لأجل الفاعل الحكيم المختار ، أما بيان أن الأجسام متماثلة في ذواتها وماهياتها ، فالدليل عليه أن الأجسام لا شك أنها متساوية في الحجمية والتحيز والجرمية ، فلو خالف بعضها بعضا لكانت تلك المخالفة في أمر وراء الحجمية والجرمية ؛ ضرورة أن ما به المخالفة غير ما به المشاركة ، وإذا كان كذلك فنقول : إن ما به حصلت المخالفة من الأجسام ، إما أن يكون صفة لها أو موصوفا بها ، أو لا صفة لها ولا موصوفا بها ، والكل باطل .

                                                                                                                                                                                                                                            أما القسم الأول : فلأن ما به حصلت المخالفة لو كانت صفات قائمة بتلك الذوات ، فتكون الذوات في أنفسها مع قطع النظر عن تلك الصفات ، متساوية في تمام الماهية ، وإذا كان الأمر كذلك ، فكل ما يصح على جسم وجب أن يصح على كل جسم ، وذلك هو المطلوب .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما القسم الثاني : وهو أن يقال : إن الذي به خالف بعض الأجسام بعضا ، أمور موصوفة بالجسمية والتحيز والمقدار . فنقول : هذا أيضا باطل ؛ لأن ذلك الموصوف ، إما أن يكون حجما ومتحيزا أو لا يكون ، والأول باطل ، وإلا لزم افتقاره إلى محل آخر ، ويستمر ذلك إلى غير النهاية . وأيضا فعلى هذا التقدير يكون المحل مثلا للحال ، ولم يكن كون أحدهما محلا والآخر حالا أولى من العكس ، فيلزم كون كل واحد منهما محلا للآخر وحالا فيه ، وذلك محال ، وأما إن كان ذلك المحل غير متحيز ، وله حجم . فنقول : مثل هذا الشيء لا يكون له اختصاص بحيز ولا تعلق بجهة ، والجسم مختص بالحيز وحاصل في الجهة ، والشيء الذي يكون واجب الحصول في الحيز والجهة ، يمتنع أن يكون حالا في الشيء الذي يمتنع حصوله في الحيز والجهة .

                                                                                                                                                                                                                                            وأما القسم الثالث ، وهو أن يقال : ما به خالف جسم جسما ، لا حال في الجسم ولا محل له ، فهذا أيضا باطل ؛ لأن على هذا التقدير يكون ذلك الشيء شيئا مباينا عن الجسم لا تعلق له به ، فحينئذ تكون ذوات الأجسام من حيث ذواتها متساوية في تمام الماهية ، وذلك هو المطلوب ، فثبت أن الأجسام بأسرها [ ص: 29 ] متساوية في تمام الماهية .

                                                                                                                                                                                                                                            وإذا ثبت هذا فنقول : الأشياء المتساوية في تمام الماهية تكون متساوية في جميع لوازم الماهية ، فكل ما صح على بعضها وجب أن يصح على الباقي ، فلما صح على جرم الشمس اختصاصه بالضوء القاهر الباهر ، وجب أن يصح مثل ذلك الضوء القاهر على جرم القمر أيضا ، وبالعكس . وإذا كان كذلك وجب أن يكون اختصاص جرم الشمس بضوئه القاهر ، واختصاص القمر بنوره الضعيف بتخصيص مخصص وإيجاد موجد وتقدير مقدر ، وذلك هو المطلوب ، فثبت أن اختصاص الشمس بذلك الضوء بجعل جاعل ، وأن اختصاص القمر بذلك النوع من النور بجعل جاعل ، فثبت بالدليل القاطع صحة قوله سبحانه وتعالى : ( هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا ) وهو المطلوب .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية