الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( فإن ماتت امرأة ولم يكن لها زوج غسلها النساء ، وأولاهن ذات رحم محرم ، ثم ذات رحم غير محرم ، ثم الأجنبية ، فإن لم يكن نساء غسلها الأقرب فالأقرب من الرجال على ما ذكرنا ، فإن كان لها زوج جاز له غسلها ، لما روت عائشة قالت : " { رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من البقيع فوجدني وأنا أجد صداعا وأقول : وا رأساه فقال : بل أنا يا عائشة وارأساه ، ثم قال : وما ضرك لو مت قبلي لغسلتك وكفنتك وصليت عليك ودفنتك } " وهل يقدم على النساء ؟ فيه وجهان ( أحدهما ) يقدم لأنه ينظر إلى ما لا ينظر النساء منها ( والثاني ) يقدم النساء على الترتيب الذي ذكرناه ، فإن لم يكن نساء فأولى الأقرباء بالصلاة فإن لم يكن فالزوج ، وإن طلق زوجته طلقة رجعية ثم مات أحدهما قبل الرجعة فإن لم يكن للآخر غسله لأنها محرمة عليه تحريم المبتوتة ) .

                                      [ ص: 115 ]

                                      التالي السابق


                                      [ ص: 115 ] الشرح ) حديث عائشة رواه أحمد بن حنبل والدارمي وابن ماجه والدارقطني والبيهقي وغيرهم بإسناد ضعيف ، فيه محمد بن إسحاق صاحب المغازي ، عن يعقوب بن عتبة . ومحمد بن إسحاق مدلس ، وإذا قال المدلس : ( عن ) لا يحتج به ، ووقع في المهذب " لو مت قبلي لغسلتك " باللام ، والذي رأيته في كتب الحديث " فغسلتك " بالفاء ويقال : مت بضم الميم وكسرها لغتان مشهورتان والبقيع بالباء في أوله وهو بقيع الغرقد مدفن أهل المدينة .

                                      ( أما الأحكام ) . ففي الفصل مسائل : ( إحداها ) إذا ماتت امرأة ليس لها زوج غسلها النساء ذوات الأرحام المحارم كالأم والبنت وبنت الابن وبنت البنت والأخت والعمة والخالة وأشباههن ، ثم ذوات الأرحام غير المحارم كبنت العم وبنت العمة وبنت الخال وبنت الخالة يقدم أقربهن فأقربهن ، قال الشيخ أبو حامد وغيره : وبعد هؤلاء يقدم ذوات الولاء ، فإن لم يكن فالأجنبيات ، ويرد على المصنف إهماله ذوات الولاء ، قال البغوي وغيره : فإن اجتمع امرأتان كل واحدة ذات رحم محرم فأولاهما من هي في محل العصوبة ، لو كانت ذكرا فتقدم العمة على الخالة ، فإن لم يكن نساء أصلا غسلها الأقرب فالأقرب من رجال المحارم على ما سبق فيما إذا مات رجل فيقدم الأب ثم الجد ثم الابن على الترتيب السابق . وفي كلام المصنف إشكال ، فإنه يوهم أنه يقدم في غسلها كل من يقدم في غسل الرجل من الرجال . فيدخل في ذلك ابن العم ولا خلاف أنه لا حق له في غسلها فإنه ليس محرما ، وإن كان له حق في الصلاة فمراده الأقرب فالأقرب من الرجال المحارم ، ولقد أحسن صاحب البيان في مشكلات المهذب وغيرهما ، فرتبه على أن ابن العم لا يجوز له غسلها بل هو كالأجنبي ، وإن كان الأكثرون قد أهملوا بيانه والله أعلم .

                                      ( الثانية ) يجوز للزوج غسل زوجته بلا خلاف عندنا ، وسنوضح دليله في فرع مذاهب العلماء إن شاء الله تعالى ، وهل يقدم على النساء ؟ فيه [ ص: 116 ] الوجهان اللذان ذكرهما المصنف وهما مشهوران ( أصحهما ) عند الأصحاب أن النساء يقدمن عليه ، ونقله الرافعي .

                                      ( والثاني ) يقدم عليهن ، وصححه البندنيجي ودليله في الكتاب ، وهل يقدم الزوج على الرجال المحارم ؟ فيه وجهان مشهوران ، أصحهما بالاتفاق يقدم الزوج عليهم صححه المحاملي والبندنيجي والسرخسي والرافعي وآخرون ، ونقله صاحب الحاوي عن أكثر أصحابنا ، وقطع المصنف في التنبيه والشيخ أبو محمد الجويني وغيره من أصحاب القفال بتقديم الزوج على الرجال المحارم وتأخيره عن النساء ، فيحصل في المسألتين ثلاثة أوجه :

                                      ( أحدها ) يقدم الزوج على الرجال والنساء .

                                      ( والثاني ) يقدم النساء والمحارم من الرجال عليه .

                                      ( والثالث ) وهو الأصح يقدم على الرجال ويؤخر عن النساء كما قطع به المصنف في التنبيه وموافقوه .

                                      ( المسألة الثالثة ) إذا طلق زوجته بائنا أو رجعيا أو فسخ نكاحها ثم مات أحدهما في العدة لم يجز للآخر غسله ، لما ذكره المصنف ، وإنما قاسه على البائن لأن أبا حنيفة خالف في الرجعية ووافق في البائن ، ووافقه أحمد ، وعن مالك روايتان كالمذهبين ، واتفقوا على أنه لا يغسل البائن .



                                      ( فرع ) لو ماتت امرأته فتزوج أختها أو أربعا سواها جاز له غسلها على المذهب ، وهو مقتضى إطلاق المصنف والجمهور . وذكر الرافعي فيه وجهين ( أصحهما ) جوازه ( والثاني ) منعه لأن أختها أو الأربع لو متن في الحال لغسلهن فلو جوزنا غسل هذه لزم منه جواز غسل امرأة وأختها في وقت واحد بالزوجية .



                                      ( فرع ) ظاهر كلام الغزالي وبعضهم أن الرجال المحارم لهم الغسل مع وجود النساء ، قال الرافعي : ولكن لم أر لعامة الأصحاب تصريحا بذلك ، وإنما يتكلمون في الترتيب ويقولون : المحارم بعد النساء .



                                      ( فرع ) قال أصحابنا : للسيد غسل أمته ، ومدبرته ، وأم ولده ، ومكاتبته ولا خلاف في هذا لأنها مملوكة له فأشبهت الزوجة ، بل هذه أولى ، فإنه يملك الرقبة والبضع جميعا ( فإن قيل ) فالمكاتبة لا يملك بضعها ( قلنا ) بالموت تنفسخ الكتابة فيعود البضع كما كان قبل الكتابة ، وأما من كانت من [ ص: 117 ] هؤلاء المذكورات مزوجة أو معتدة أو مستبرأة فلا يجوز له غسلها بالاتفاق لأنه لا يستبيح بضعها ، وهل يجوز للأمة والمدبرة والمستولدة غسل السيد ؟ فيه وجهان مشهوران وقد ذكرهما المصنف بعد هذا ( أصحهما ) لا يجوز ، لأنها بالموت صارت لغيره أو حرة ( والثاني ) جوازه كعكسه ، وأما المكاتبة والمزوجة والمعتدة والمستبرأة فلا يجوز لهن غسله بلا خلاف كعكسه ، صرح به البغوي وغيره .



                                      ( فرع ) إذا غسل أحد الزوجين الآخر فينبغي أن يلف على يده خرقة لئلا يمس بشرته فإن لم يلف ، قال القاضي حسين ومتابعوه : يصح الغسل بلا خلاف ولا يبنى على الخلاف في انتقاض طهر الملموس ، لأن الشرع أذن له مع مسيس الحاجة إليه ، وأما اللامس فقطع القاضي بانتقاضه ، وفيه وجه ضعيف سبق في باب ما ينقض الوضوء .



                                      ( فرع ) قال أصحابنا : يشترط فيمن نقدمه في الغسل شرطان ( أحدهما ) كونه مسلما ، إن كان المغسول مسلما ، فلو كان المحكوم بتقديم درجته كافرا فهو كالمعدوم ونقدم من بعده ، حتى يقدم المسلم الأجنبي على القريب الكافر ( الثاني ) أن لا يكون قاتلا ، قال المتولي وآخرون : إذا قتل قريبه فليس له حق في غسله ولا الصلاة عليه ، ولا في دفنه لأنه غير وارث ، ولأنه لم يرع حق القرابة ، بل بالغ في قطع الرحم ، هذا إذا قتله ظلما فإن قتله بحق ، قال المتولي وآخرون : فيه وجهان بناء على إرثه إن ورثناه ثبت له حق الغسل وغيره وإلا فلا .



                                      ( فرع ) لو ترك المقدم في الغسل حقه وسلمه لمن بعده ، فللذي بعده تعاطيه بشرط اتحاد الجنس فليس للرجال أن يتركوه كلهم ويفوضوه إلى النساء إذا كان الميت رجلا ، وكذا ليس لهن تفويضه إلى الرجال إذا كانت الميتة امرأة ، هكذا ذكره الشيخ أبو محمد الجويني ، ونقله عنه إمام الحرمين في النهاية ، وجزم به الرافعي وآخرون . وقال إمام الحرمين : عندي في جواز تفويض المقدم إلى غيره احتمالان .



                                      ( فرع ) قال الشيخ أبو حامد في تعليقه : مذهبنا أن المرأة إذا ماتت كان حكم نظر الزوج إليها بغير شهوة باقيا ، وزال حكم نظره بشهوة ، [ ص: 118 ] ثم قال بعده ، فإن قيل : قلتم فرقة الطلاق ينقطع بها حكم النظر ، ولا ينقطع بفرقة الموت فما الفرق ؟ ( قلنا ) من وجهين ( أحدهما ) : أن فرقة الطلاق برضاهما أو برضاه ، وفرقة الموت بغير اختيارهما .

                                      ( والثاني ) : أن زوال الملك بالموت يبقى من آثاره ما لا يبقى إذا زال في الحياة ولهذا لو قال : إذا بعت عبدي فقد أوصيت به لفلان فباعه لم تصح الوصية ، ولو قال : إذا مت فعبدي موصى به لفلان صحت الوصية ويؤيده أن فرقة الطلاق تمنع الإرث بخلاف فرقة الموت . هذا آخر كلام أبي حامد ، وكان حقيقة الفرق الأول أن الحاجة تدعو إلى النظر بعد الموت للغسل ونحوه ، ولا يعد واحد منهما مقصرا في هذه الفرقة بخلاف الفرقة في الحياة .




                                      الخدمات العلمية