الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
حديث الإفك

وكان حديث الإفك في غزوة بني المصطلق :

لما رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان ببعض الطريق ، قال أهل الإفك ما قالوا ، وكان من حديثه ما روي عن عائشة ، قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه ، فأيتهن خرج سهمها خرج بها معه ، فلما كانت غزوة بني المصطلق أقرع بين نسائه فخرج سهمي ، فخرج بي معه ، وكانت النساء إذ ذاك إنما يأكلن العلق لم يتفكهن [ ص: 79 ] باللحم ، وكنت إذا وصل بعيري جلست في هودجي ، ثم يأتي القوم الذين يرحلون بعيري ، فيحملون الهودج وأنا فيه ، فيضعونه على ظهر البعير ، ثم يأخذون برأس البعير ويسيرون .

قالت فلما قفل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من سفره ذلك ، وكان قريبا من المدينة ، بات بمنزل بعض الليل ، ثم ارتحل هو والناس ، وكنت قد خرجت لبعض حاجتي وفي عنقي عقد لي من جزع ظفار ، انسل من عنقي ولا أدري ، فلما رجعت التمست العقد فلم أجده ، وأخذ الناس بالرحيل ، فرجعت إلى المكان الذي كنت فيه ألتمسه فوجدته ، وجاء القوم الذين يرحلون بعيري ، فأخذوا الهودج وهم يظنون أني فيه ، فاحتملوه على عادتهم وانطلقوا ، ورجعت إلى المعسكر وما فيه داع ولا مجيب ، فتلففت بجلبابي واضطجعت مكاني ، وعرفت أنهم يرجعون إلي إذا افتقدوني .

قالت : فوالله إني لمضطجعة إذ مر بي صفوان بن المعطل السلمي ، وكان تخلف عن العسكر لحاجته ، فلم يبت مع الناس ، فلما رأى سوادي أقبل حتى وقف علي فعرفني ، وكان رآني قبل أن يضرب الحجاب ، فلما رآني استرجع وقال : ما خلفك ؟ قالت : فما كلمته ، ثم قرب البعير وقال : اركبي . فركبت ، وأخذ برأس البعير مسرعا .

فلما نزل الناس واطمأنوا طلع الرجل يقودني ، فقال أهل الإفك في ما قالوا ، فارتعج العسكر ، ولم أعلم بشيء من ذلك ، ثم قدمنا المدينة فاشتكيت شكوى شديدة ، وقد انتهى الحديث إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإلى أبوي ، ولا يذكران لي منه شيئا ، إلا أني أنكرت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعض لطفه ، فكان إذا دخل علي وأمي تمرضني قال : كيف تيكم ؟ لا يزيد على ذلك ، فوجدت في نفسي مما رأيت من جفائه ، فاستأذنته في الانتقال إلى أمي لتمرضني ، فأذن لي ، وانتقلت ولا أعلم بشيء مما كان ، حتى نقهت من وجعي بعد بضع وعشرين ليلة .

قالت : وكنا قوما عربا لا نتخذ في بيوتنا هذه الكنف ، نعافها ونكرهها ، إنما كان النساء يخرجن كل ليلة ، فخرجت ليلة لبعض حاجتي ومعي أم مسطح ابنة أبي رهم بن المطلب ، وكانت أمها خالة أبي بكر الصديق . قالت : فوالله إنها لتمشي إذ عثرت في مرطها فقالت : تعس مسطح . قالت : قلت : لعمر الله بئس ما قلت لرجل من المهاجرين قد شهد بدرا ! قالت : أوما بلغك الخبر ؟ قلت : وما الخبر ؟ فأخبرتني بالذي كان .

قالت : [ ص: 80 ] فوالله ما قدرت على أن أقضي حاجتي فرجعت ، فما زلت أبكي حتى ظننت أن البكاء سيصدع كبدي ، وقلت لأمي : تحدث الناس بما تحدثوا ولا تذكرين لي من ذلك شيئا ؟ قالت : أي بنية ، خفضي عليك ، فوالله قل ما كانت امرأة حسناء عند رجل يحبها لها ضرائر إلا كثرن ، وكثر الناس عليها . قالت : وقد قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس فخطبهم ، ولا أعلم بذلك ، ثم قال : أيها الناس ، ما بال رجال يؤذونني في أهلي ، ويقولون عليهن غير الحق ، ويقولون ذلك لرجل والله ما علمت عليه إلا خيرا ، وما دخل بيتا من بيوتي إلا معي .

وكان كبر ذلك عند عبد الله بن أبي ابن سلول في رجال من الخزرج ، مع الذي قال مسطح وحمنة بنت جحش ، وذلك أن زينب أختها كانت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأشاعت من ذلك ما أشاعت ؛ تضارني لأختها ، فلما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك المقالة ، قال أسيد بن حضير : يا رسول الله ، إن يكونوا من الأوس نكفكهم ، وإن يكونوا من إخواننا الخزرج فمرنا بأمرك . فقال سعد بن عبادة : والله ما قلت هذه المقالة إلا وقد عرفت أنهم من الخزرج ، ولو كانوا من قومك ما قلت هذا . فقال أسيد : كذبت ، ولكنك منافق تجادل عن المنافقين . وتثاور الناس حتى كاد يكون بينهم شر ، ونزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودعا علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد فاستشارهما ، فأما أسامة فأثنى خيرا ، وأما علي فقال : إن النساء لكثير ، وسل الخادم تصدقك ، فدعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بريرة يسألها ، فقام إليها علي ، فضربها ضربا شديدا وهو يقول : اصدقي رسول الله . فقالت : والله ما أعلم إلا خيرا ، وما كنت أعيب عليها إلا أنها كانت تنام عن عجينها ، فيأتي الداجن فيأكله .

ثم دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعندي أبواي وامرأة من الأنصار وأنا أبكي وهي تبكي ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : يا عائشة ، إنه قد كان ما بلغك من قول الناس ، فإن كنت قارفت سوءا فتوبي إلى الله .

قالت : فوالله لقد تقلص دمعي حتى ما أحس منه شيئا ، وانتظرت أبوي أن يجيباه ، فلم يفعلا ، فقلت : ألا تجيبانه ؟ فقالا : والله ما ندري بماذا نجيبه ! وما أعلم أهل بيت دخل عليهم ما دخل على أبي بكر تلك الأيام . فلما استعجما بكيت ثم قلت : والله لا [ ص: 81 ] أتوب إلى الله مما ذكرت أبدا ، والله لئن أقررت - والله يعلم أني منه بريئة - لتصدقني ، ولئن أنكرت لا تصدقني . ثم التمست اسم يعقوب فلم أجده ، فقلت : ولكني أقول كما قال أبو يوسف : فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ، ولشأني كأني أصغر في نفسي أن ينزل الله في قرآنا يتلى ، ولكني كنت أرجو أن يرى رؤيا يكذب الله بها عني .

قالت : فوالله ما برح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من مجلسه حتى جاءه الوحي ، فسجي بثوبه ، فأما أنا فوالله ما فزعت ولا باليت ، قد عرفت أني بريئة ، وأن الله غير ظالمي ، وأما أبواي فما سري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ظننت لتخرجن أنفسهما فرقا من أن يحقق الله ما قال الناس .

قالت : ثم سري عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنه ليتحدر عنه مثل الجمان ، فجعل يمسح العرق عن جبينه ويقول : أبشري يا عائشة ، فقد أنزل الله براءتك . فقلت : بحمد الله ! ثم خرج إلى الناس فخطبهم ، وذكر لهم ما أنزل الله في من القرآن ، ثم أمر بمسطح بن أثاثة ، وحسان بن ثابت ، وحمنة بنت جحش ، وكانوا ممن أفصح بالفاحشة ، فضربوا حدهم ، وحلف أبو بكر لا ينفق على مسطح أبدا ، فأنزل الله : ولا يأتل أولو الفضل منكم الآية ، فقال أبو بكر : إني أحب أن يغفر الله لي ، ورجع إلى مسطح نفقته . ثم إن صفوان بن المعطل اعترض حسان بن ثابت بالسيف فضربه ، ثم قال :


تلق ذباب السيف عني فإنني غلام إذا هوجيت لست بشاعر



فوثب ثابت بن قيس بن شماس فجمع يديه إلى عنقه ، وانطلق به إلى الحارث بن الخزرج ، فلقيه عبد الله بن رواحة فقال : ما هذا ؟ فقال : ضرب حسان وما أراه إلا قتله . فقال عبد الله : هل علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشيء مما صنعت ؟ قال : لا والله ، قال : لقد اجترأت ، أطلق الرجل . فأطلقه ، فذكر ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعا حسان وصفوان بن المعطل ، فقال صفوان : هجاني يا رسول الله وآذاني ، فضربته . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحسان : أحسن يا حسان . قال : هي لك يا رسول الله ، فأعطاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عوضا منها بيرحاء - وهي قصر بني حديلة ، بالحاء المهملة - وأعطاه شيرين - أمة قبطية ، وهي أخت مارية أم إبراهيم ابن رسول الله - فولدت له ابنه عبد الرحمن ، وكان صفوان حصورا [ ص: 82 ] لا يأتي النساء ، ثم قتل بعد ذلك شهيدا
.

( مسطح بكسر الميم ، وسكون السين المهملة ، وبالطاء والحاء المهملتين ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية