الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (14) قوله : تأكل : إما حال أو مستأنفة . وقرأ " منسأته " ، بهمزة ساكنة ابن ذكوان . وبألف محضة نافع وأبو عمرو ، وبهمزة مفتوحة الباقون .

                                                                                                                                                                                                                                      والمنسأة : العصا اسم آلة من نسأه أي : أخره كالمكسحة والمكنسة . وفيها الهمزة وهو لغة تميم وأنشد :


                                                                                                                                                                                                                                      3727 - أمن أجل حبل لا أباك ضربته بمنسأة قد جر حبلك أحبلا



                                                                                                                                                                                                                                      والألف وهي لغة الحجاز . وأنشد :


                                                                                                                                                                                                                                      3728 - إذا دببت على المنساة من كبر     فقد تباعد عنك اللهو والغزل

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 164 ] فأما بالهمزة المفتوحة فهي الأصل ; لأن الاشتقاق يدل ويشهد له ، والفتح لأجل بناء مفعلة كمكنسة . وأما سكونها ففيه وجهان ، أحدهما : أنه أبدل الهمزة ألفا ، كما أبدلها نافع وأبو عمرو . وسيأتي ، ثم أبدل هذه الألف همزة على لغة من يقول : العألم والخأتم . وقوله :

                                                                                                                                                                                                                                      372 - 9- وخندف هامة هذا العألم

                                                                                                                                                                                                                                      ذكره ابن مالك . وهذا لا أدري ما حمله عليه ، كيف يعتقد أنه هرب من شيء ثم يعود إليه ؟ وأيضا فإنهم نصوا على أنه إذا أبدل من الألف همزة : فإن كان لتلك الألف أصل حركت هذه الهمزة بحركة أصل الألف . وأنشد أبو الحسن ابن عصفور على ذلك :


                                                                                                                                                                                                                                      3730 - ولى نعام بني صفوان زوزأة      ... ... ... ...



                                                                                                                                                                                                                                      قال : الأصل زوزاة . وأصل هذا : زوزوة ، فلما أبدلت من الألف همزة حركها بحركة الواو . إذا عرفت هذا فكان ينبغي أن تبدل هذه الألف همزة مفتوحة ; لأنها عن أصل متحرك ، وهو الهمزة المفتوحة ، فتعود إلى الأول ، وهذا لا يقال . الثاني : أنه سكن الفتحة تخفيفا ، والفتحة قد سكنت في مواضع تقدم التنبيه عليها وشواهدها . ويحسنه هنا : أن الهمزة تشبه حروف العلة ، وحرف العلة تستثقل عليه الحركة من حيث الجملة ، وإن كان لا تستثقل الفتحة [ ص: 165 ] لخفتها . وأنشدوا على تسكين همزتها :


                                                                                                                                                                                                                                      3731 - صريع خمر قام من وكاءته     كقومة الشيخ إلى منسأته



                                                                                                                                                                                                                                      وقد طعن قوم على هذه القراءة ، ونسبوا راويها إلى الغلط . قالوا : لأن قياس تخفيفها إنما هو تسهيلها بين بين ، وبه قرأ ابن عامر وصاحباه ، فظن الراوي أنهم سكنوا . وضعفها أيضا بعضهم : بأنه يلزم سكون ما قبل تاء التأنيث ، وما قبلها واجب الفتح إلا الألف .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما قراءة الإبدال فقيل : هي غير قياسية ، يعنون أنها ليست على قياس تخفيفها . إلا أن هذا مردود : بأنها لغة الحجاز ، ثابتة ، فلا يلتفت لمن طعن . وقد قال أبو عمرو : - وكفى به - " أنا لا أهمزها ، لأني لا أعرف لها اشتقاقا ، فإن كانت مما لا يهمز فقد أخطئ . وإن كانت تهمز فقد يجوز لي ترك الهمز فيما يهمز " . وهذا الذي ذكره أبو عمرو أحسن ما يقال في هذا ونظائره .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرئ " منسأته " بفتح الميم مع تحقيق الهمزة ، وإبدالها ألفا ، وحذفها تخفيفا ، و " منساءته " بزنة مفعالته كقولهم : ميضأة وميضاءة وكلها لغات .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن جبير " من سأته " فصل " من " وجعلها حرف جر ، وجعل " سأته " مجرورة بها . والسأة والسئة هنا العصا . وأصلها يد القوس العليا والسفلى يقال : ساة القوس مثل شاة ، وسئتها ، فسميت العصا بذلك على وجه الاستعارة . والمعنى : تأكل [ ص: 166 ] من طرف عصاه . ووجه ذلك كما جاء في التفسير : أنه اتكأ على عصا خضراء من خروب ، والعصا الخضراء متى اتكئ عليها تصير كالقوس في الاعوجاج غالبا . وساة فعلة ، وسئة : فعلة نحو : قحة وقحة ، والمحذوف لامهما .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن جني : " سمى العصا ساءة لأنها تسوء ، فهي فلة ، والعين محذوفة " قلت : وهذا يقتضي أن تكون القراءة بهمزة ساكنة ، والمنقول أن هذه القراءة بألف صريحة ولأبي الفتح أن يقول : أصلها الهمز ، ولكن أبدلت .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : " دابة الأرض " فيه وجهان ، أظهرهما : أن الأرض هذه المعروفة . والمراد بدابة الأرض الأرضة دويبة تأكل الخشب . الثاني : أن الأرض مصدر لقولك : أرضت الدابة الخشبة تأرضها أرضا أي : أكلتها . فكأنه قيل : دابة الأكل . يقال : أرضت الدابة الخشبة تأرضها أرضا فأرضت بالكسر تأرض هي بالفتح أرضا بالفتح أيضا نحو : أكلت القوادح الأسنان تأكلها أكلا فأكلت هي بالكسر تأكل أكلا بالفتح . ونحوه أيضا : جدعت أنفه جدعا فجدع هو جدعا بفتح عين المصدر . وبفتح الراء قرأ ابن عباس والعباس بن الفضل وهي مقوية المصدرية في القراءة المشهورة . وقيل : الأرض بالفتح ليس مصدرا بل هو جمع أرضة ، وعلى هذا يكون من باب إضافة العام إلى الخاص لأن الدابة أعم من الأرضة وغيرها من الدواب .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : " فلما خر " الظاهر أن فاعله ضمير سليمان عليه السلام . وقيل : [ ص: 167 ] عائد على الباب لأن الدابة أكلته فوقع . وقيل : بل أكلت عتبة الباب ، وهي الخارة . ونقل ذلك في التفسير ، وينبغي أن لا يصح ; إذ كان يكون التركيب خرت بتاء التأنيث . و :


                                                                                                                                                                                                                                      3732 - ... ... ... ...     أبقل إبقالها



                                                                                                                                                                                                                                      ضرورة أو نادر . وتأويلها بمعنى العود أندر منه .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : " تبينت " العامة على بنائه للفاعل مسندا للجن . وفيه تأويلات ، أحدها : أنه على حذف مضاف تقديره : تبين أمر الجن أي : ظهر وبان . و " تبين " يأتي بمعنى بان لازما ، كقوله :


                                                                                                                                                                                                                                      3733 - تبين لي أن القماءة ذلة     وأن أعزاء الرجال طيالها



                                                                                                                                                                                                                                      فلما حذف المضاف ، وأقيم المضاف إليه مقامه ، وكان مما يجوز تأنيث فعله ، ألحقت علامة التأنيث .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : أن لو كانوا بتأويل المصدر مرفوعا بدلا من الجن . والمعنى : ظهر كونهم لو علموا الغيب لما لبثوا في العذاب أي : ظهر جهلهم . الثاني : أن " تبين " بمعنى بان وظهر أيضا . و " الجن " فاعل . ولا حاجة إلى حذف مضاف و أن لو كانوا بدل كما تقدم تحريره . والمعنى : ظهر للجن جهلهم للناس ; لأنهم كانوا يوهمون الناس بذلك ، كقولك : بان زيد جهله .

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث : أن " تبين " هنا متعد بمعنى أدرك وعلم ، وحينئذ يكون المراد بالجن ضعفتهم ، وبالضمير [ ص: 168 ] في " كانوا " كبارهم ومردتهم ، و أن لو كانوا مفعول به ، وذلك أن المردة والرؤساء من الجن كانوا يوهمون ضعفاءهم أنهم يعلمون الغيب . فلما خر سليمان عليه السلام ميتا ، مكثوا بعده عاما في العمل ، تبينت السفلة من الجن أن الرؤساء منهم لو كانوا يعلمون الغيب كما ادعوا ما مكثوا في العذاب . ومن مجيء " تبين " متعديا بمعنى أدرك قوله :


                                                                                                                                                                                                                                      3734 - أفاطم إني ميت فتبيني     ولا تجزعي كل الأنام يموت



                                                                                                                                                                                                                                      أي : تبيني ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      وفي كتاب أبي جعفر ما يقتضي أن بعضهم قرأ " الجن " بالنصب ، وهي واضحة أي : تبينت الإنس الجن . و أن لو كانوا بدل أيضا من " الجن " . وقرأ ابن عباس ويعقوب " تبينت الجن " على البناء للمفعول ، وهي مؤيدة لما نقله النحاس . وفي الآية قراءات كثيرة أضربت عنها لمخالفتها السواد .

                                                                                                                                                                                                                                      و " أن " في أن لو كانوا الظاهر أنها مصدرية مخففة من الثقيلة ، واسمها ضمير الشأن . و " لو " فاصلة بينها وبين خبرها الفعلي . وقد تقدم تحقيق ذلك كقوله : وأن لو استقاموا ، أن لو نشاء أصبناهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال ابن عطية : " وذهب سيبويه إلى أن " أن " لا موضع لها من [ ص: 169 ] الإعراب ، إنما هي مؤذنة بجواب ما ينزل منزلة القسم من الفعل الذي معناه التحقيق واليقين ; لأن هذه الأفعال التي هي : تحققت وتيقنت وعلمت ونحوها تحل محل القسم ، فـ " ما لبثوا " جواب القسم لا جواب " لو " ، وعلى الأقوال الأول يكون جوابها " . قلت : وظاهر هذا أنها زائدة لأنهم نصوا على اطراد زيادتها قبل " لو " في حيز القسم . وللناس خلاف : هل الجواب للواو أو للقسم ؟ والذي يقتضيه القياس أن يجاب أسبقهما كما في اجتماعه مع الشرط الصريح ما لم يتقدمهما ذو خبر ، كما تقدم بيانه . وتقدم الكلام والقراءات في سبأ في سورة النمل .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية