الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (23) قوله : إلا لمن أذن له : فيه أوجه ، أحدها : أن اللام متعلقة بنفس الشفاعة . قال أبو البقاء : " كما تقول : شفعت له " . الثاني : أن يتعلق بـ " تنفع " ، قاله أبو البقاء . وفيه نظر : وهو أنه يلزم أحد أمرين : إما زيادة اللام في المفعول في غير موضعها ، وإما حذف مفعول " تنفع " وكلاهما خلاف الأصل . الثالث : أنه استثناء مفرغ من مفعول الشفاعة المقدر أي : لا تنفع الشفاعة لأحد إلا لمن أذن له .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم المستثنى منه المقدر يجوز أن يكون هو المشفوع له ، وهو الظاهر ، والشافع ليس مذكورا إنما دل عليه الفحوى . والتقدير : لا تنفع الشفاعة لأحد من المشفوع لهم إلا لمن أذن تعالى للشافعين أن يشفعوا فيه . ويجوز أن يكون هو الشافع ، والمشفوع له ليس مذكورا تقديره : لا تنفع الشفاعة إلا لشافع أذن له أن يشفع . وعلى هذا فاللام في " له " لام التبليغ لا لام العلة . الرابع : أنه استثناء مفرغ أيضا ، لكن من الأحوال العامة . تقديره : لا تنفع الشفاعة إلا كائنة لمن أذن له . وقرره الزمخشري فقال : " تقول : " الشفاعة " لزيد " على معنى : [ ص: 179 ] أنه الشافع كما تقول : الكرم لزيد ، وعلى معنى أنه المشفوع له كما تقول : القيام لزيد فاحتمل قوله : ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له أن يكون على أحد هذين الوجهين أي : لا تنفع الشفاعة إلا كائنة لمن أذن له من الشافعين ومطلقة له ، أو لا تنفع الشفاعة إلا كائنة لمن أذن له أي : لشفيعه ، أو هي اللام الثانية في قولك : " أذن لزيد لعمرو " أي : لأجله فكأنه قيل : إلا لمن وقع الإذن للشفيع لأجله . وهذا وجه لطيف وهو الوجه " . انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      فقوله : " الكرم لزيد " يعني : أنها ليست لام العلة بل لام الاختصاص . وقوله : " القيام لزيد " يعني أنها لام العلة كما هي في " القيام لزيد " . وقوله : " أذن لزيد لعمرو " يعني : أن الأولى للتبليغ ، والثانية لام العلة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الأخوان وأبو عمرو " أذن " مبنيا للمفعول ، والقائم مقام الفاعل الجار والمجرور . والباقون مبنيا للفاعل أي : أذن الله وهو المراد في القراءة الأخرى . وقد صرح به في قوله : إلا من بعد أن يأذن الله ، إلا من أذن له الرحمن .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : " حتى إذا " هذه غاية لا بد لها من مغيا . وفيه أوجه ، أحدها : أنه قوله : فاتبعوه على أن يكون الضمير في عليهم من قوله : صدق عليهم وفي " قلوبهم " عائدا على جميع الكفار ، ويكون التفزيع حالة [ ص: 180 ] مفارقة الحياة ، أو يجعل اتباعهم إياه مستصحبا لهم إلى يوم القيامة مجازا .

                                                                                                                                                                                                                                      والجملة من قوله : " قل ادعوا " إلى آخرها معترضة بين الغاية والمغيا . ذكره الشيخ . وهو حسن .

                                                                                                                                                                                                                                      والثاني : أنه محذوف . قال ابن عطية : " كأنه قيل : ولا هم شفعاء كما تحبون أنتم ، بل هم عبدة أو مسلمون أي : منقادون . حتى إذا فزع عن قلوبهم " انتهى . وجعل الضمير في "قلوبهم " عائدا على الملائكة . وقرر ذلك ، وضعف قول من جعله عائدا على الكفار ، أو جميع العالم وليس هذا موضع تنقيحه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : " قالوا : ماذا " هو جواب " إذا " ، وقوله : " قالوا الحق " جواب لقوله : ماذا قال ربكم . و " الحق " منصوب بـ " قال " مضمرة أي : قالوا قال ربنا الحق . أي : القول الحق . إلا أن الشيخ رد هذا فقال : " فما قدره ابن عطية لا يصح لأن ما بعد الغاية مخالف لما قبلها ، هم منقادون عبدة دائما ، لا ينفكون عن ذلك لا إذا فزع عن قلوبهم ، ولا إذا لم يفزع " .

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث : أنه قوله : " زعمتم " أي : زعمتم الكفر إلى غاية التفزيع ثم تركتم ما زعمتم وقلتم قال الحق . وعلى هذا يكون في الكلام التفات من خطاب في قوله : " زعمتم " إلى الغيبة في قوله : "قلوبهم " .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 181 ] الرابع : أنه ما فهم من سياق الكلام . قال الزمخشري : " فإن قلت : بأي شيء اتصل قوله : حتى إذا فزع ولأي شيء وقعت " حتى " غاية ؟ قلت : بما فهم من هذا الكلام من أن ثم انتظارا للإذن وتوقفا وتمهلا وفزعا من الراجين للشفاعة والشفعاء هل يؤذن لهم ، أو لا يؤذن ؟ وأنه لا يطلق الإذن إلا بعد ملي من الزمان وطول من التربص . ودل على هذه الحال قوله : [تعالى رب السماوات إلى قوله : إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا فكأنه قيل : يتربصون ويتوقفون مليا فزعين وهلين ، حتى إذا فزع عن قلوبهم أي : كشف الفزع عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم بكلمة يتكلم بها رب العزة في إطلاق الإذن ، تباشروا بذلك ، وسأل بعضهم بعضا : ماذا قال ربكم قالوا : الحق . أي : القول الحق وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى " .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن عامر " فزع " مبنيا للفاعل . فإن كان الضمير في " قلوبهم " للملائكة فالفاعل في " فزع " ضمير اسم الله تعالى لتقدم ذكره . وإن كان للكفار فالفاعل ضمير مغويهم . كذا قال الشيخ . والظاهر أنه يعود على الله مطلقا . وقرأ الباقون مبنيا للمفعول . والقائم مقام الفاعل الجار بعده . وفعل بالتشديد معناها السلب هنا نحو : قردت البعير أي : أزلت قراده ، كذا هنا أي : أزال الفزع عنها .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 182 ] وقرأ الحسن " فزع " مبنيا للمفعول مخففا كقولك : ذهب بزيد .

                                                                                                                                                                                                                                      والحسن أيضا وقتادة ومجاهد " فرغ " مبنيا للفاعل من الفراغ . وعن الحسن أيضا تخفيف الراء . وعنه أيضا وعن ابن عمر وقتادة مشدد الراء مبنيا للمفعول .

                                                                                                                                                                                                                                      والفراغ : الفناء والمعنى : حتى إذا أفنى الله الوجل أو انتفى بنفسه ، أو نفي الوجل والخوف عن قلوبهم فلما بني للمفعول قام الجار مقامه . وقرأ ابن مسعود وابن عمر " افرنقع " من الافرنقاع . وهو التفرق . قال الزمخشري : " والكلمة مركبة من حروف المفارقة مع زيادة العين ، كما ركب " اقمطر " من حروف القمط مع زيادة الراء " . قال الشيخ : " فإن عنى أن العين من حروف الزيادة ، وكذا الراء ، وهو ظاهر كلامه فليس بصحيح ; لأن العين والراء ليسا من حروف الزيادة . وإن عنى أن الكلمة فيها حروف ما ذكر ، وزائدا إلى ذلك العين والراء ، والمادة فرقع وقمطر فهو صحيح " انتهى . وهذه قراءة مخالفة للسواد ، ومع ذلك هي لفظة غريبة ثقيلة اللفظ ، نص أهل البيان عليها ومثلوا بها . وحكوا عن عيسى بن عمر أنه غشي عليه ذات يوم فاجتمع عليه النظارة فلما أفاق قال : " أراكم تكأكأتم علي تكأكؤكم على ذي جنة افرنقعوا عني " أي : اجتمعتم علي اجتماعكم على المجنون تفرقوا عني ، فعابها الناس عليه ، حيث استعمل مثل هذه الألفاظ الثقيلة المستغربة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن أبي عبلة " الحق " بالرفع على أنه خبر مبتدأ مضمر أي : قالوا قوله الحق . [ ص: 183 ]

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية