الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              مسألة : اختلفوا في تعليل الحكم بعلتين

              والصحيح عندنا جوازه ; لأن العلة الشرعية علامة ولا يمتنع نصب علامتين على شيء واحد وإنما يمتنع هذا في العلل العقلية ، ودليل جوازه وقوعه فإن من لمس ومس وبال في وقت واحد ينتقض وضوءه ولا يحال على واحد من هذه الأسباب ، ومن أرضعتها زوجة أخيك وأختك أيضا أو جمع لبنهما وانتهى إلى حلق المرضع في لحظة واحدة حرمت عليك ; لأنك خالها وعمها ، والنكاح فعل واحد وتحريمه حكم [ ص: 337 ] واحد ولا يمكن أن يحل على الخؤولة دون العمومة أو بعكسه ، ولا يمكن أن يقال : هما تحريمان وحكمان ، بل التحريم له حد واحد وحقيقة واحدة ويستحيل اجتماع مثلين .

              نعم لو فرض رضاع ونسب فيجوز أن يرجح النسب لقوته ، أو اجتمع ردة وعدة وحيض فيحرم الوطء فيجوز أن يتوهم تعديد التحريمات ، ولو قتل وارتد فيجوز أن يقال : المستحق قتلان ولو قتل شخصين ، فكذلك ولو باع حرا بشرط خيار مجهول ربما قيل : علة البطلان الحرية دون الخيار . فهذه أوهام ربما تنقدح في بعض المواضع ، وإنما فرضناه في اللمس والمس والخؤولة والعمومة لدفع هذه الخيالات ، فدل هذا على إمكان نصب علامتين على حكم واحد وعلى وقوعه أيضا .

              فإن قيل : فإذا قاس المعلل على أصل بعلة فذكر المعترض علة أخرى في الأصل بطل قياس المعلل ، وإن أمكن الجمع بين علتين فلم يقبل هذا الاعتراض ؟ فنقول : إنما يبطل به استشهاده بالأصل إن كانت علته ثابتة بطريق المناسبة المجردة دون التأثير أو بطريق العلامة الشبهية ، أما إن كان بطريق التأثير أعني ما دل النص أو الإجماع على كونه علة فاقتران علة أخرى بها لا يفسدها كالبول والمس والخؤولة والعمومة في الرضاع ، إذ دل الشرع على أن كل واحد من المعنيين علة على حيالها ، أما إذا كان إثباته بشهادة الحكم والمناسبة انقطع الظن بظهور علة أخرى .

              مثاله : أن من أعطى إنسانا فوجدناه فقيرا ظننا أنه أعطاه لفقر وعللنا به ، وإن وجدناه قريبا عللنا بالقرابة ، فإن ظهر لنا الفقر بعد القرابة أمكن أن يكون الإعطاء للفقر لا للقرابة أو يكون لاجتماع الأمرين فيزول ذلك الظن ; لأن تمام ذلك الظن بالسبر وهو أنه لا بد من باعث على العطاء ، ولا باعث إلا الفقر فإذا هو الباعث ، أو لا باعث إلا القرابة فإذا هو الباعث ، فإذا ظهرت علة أخرى بطلت إحدى مقدمتي السبر ، وهو أنه لا باعث إلا كذا ، وكذلك عتقت بريرة تحت عبد فخيرها النبي عليه السلام فيقول أبو حنيفة خيرها لملكها نفسها ولزوال قهر الرق عنها فإنها كانت مقهورة في النكاح ، وهذا مناسب فيبنى عليه تخييرها وإن عتقت تحت حر ، فقلنا :

              العلة خيرها لتضررها بالمقام تحت عبد ولا يجري ذلك في الحر فكيف يلحق به ؟ وإمكان هذا يقدح في الظن الأول ، فإنه لا دليل له عليه إلا المناسبة ; ودفع الضرر أيضا مناسب ليست الحوالة على ذلك أولى من هذا إلا أن يظهر ترجيح لأحد المعنيين .

              وأما مثال العلامة الشبهية فعلة الربا ، فإنه لم يذهب أحد إلى الجمع بين القوت والطعم والكيل على أن كل واحد علة لأنه لم يقم دليل من جهة النص والإجماع بل طريقه إظهار الضرورة في طلب علامة ضابطة مميزة مجرى الحكم عن موقعه ، إذ جرى الربا في الخبز والعجين مع زوال اسم البر فلا يتم النظر إلا بقولنا : ولا بد من علامة ، ولا علامة أولى من الطعم ، فإذا هو العلامة ، فإذا ظهرت علامة أخرى مساوية بطلت المقدمة الثانية من النظر فانقطع الظن .

              والحاصل أن كل تعليل يفتقر إلى السبر فمن ضرورته اتحاد العلة وإلا انقطع شهادة الحكم للعلة ، وما لا يفتقر إلى السبر كالمؤثر فوجود علة أخرى لا يضر ; وقد ذكرنا هذا في خواص هذه الأقيسة .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية