الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون )

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى ( ويقولون متى هذا الوعد إن كنتم صادقين قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله لكل أمة أجل إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون )

                                                                                                                                                                                                                                            [ ص: 87 ] اعلم أن هذا هو الشبهة الخامسة من شبهات منكري النبوة فإنه - عليه السلام - كلما هددهم بنزول العذاب ومر زمان ولم يظهر ذلك العذاب ، قالوا متى هذا الوعد إن كنتم صادقين ، واحتجوا بعدم ظهوره على القدح في نبوته - عليه السلام - . وفي الآية مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : أن قوله تعالى : ( ويقولون متى هذا الوعد ) كالدليل على أن المراد مما تقدم من قوله : ( قضي بينهم بالقسط ) القضاء بذلك في الدنيا ، لأنه لا يجوز أن يقولوا متى هذا الوعد عند حضورهم في الدار الآخرة ، لأن الحال في الآخرة حال يقين ومعرفة لحصول كل وعد ووعيد وإلا ظهر أنهم إنما قالوا ذلك على وجه التكذيب للرسول - عليه السلام - فيما أخبرهم من نزول العذاب للأعداء والنصرة للأولياء أو على وجه الاستبعاد لكونه محقا في ذلك الإخبار ، ويدل هذا القول على أن كل أمة قالت لرسولها مثل ذلك القول بدليل قوله : ( إن كنتم صادقين ) وذلك لفظ جمع ، وهو موافق لقوله : ( ولكل أمة رسول ) ثم إنه تعالى أمره بأن يجيب عن هذه الشبهة بجواب يحسم المادة وهو قوله : ( قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله ) والمراد أن إنزال العذاب على الأعداء وإظهار النصرة للأولياء لا يقدر عليه أحد إلا الله سبحانه ، وأنه تعالى ما عين لذلك الوعد والوعيد وقتا معينا حتى يقال لما لم يحصل ذلك الموعود في ذلك الوقت ، دل على حصول الخلف فكان تعيين الوقت مفوضا إلى الله سبحانه ، إما بحسب مشيئته وإلهيته عند من لا يعلل أفعاله وأحكامه برعاية المصالح ، وإما بحسب المصلحة المقدرة عند من يعلل أفعاله وأحكامه برعاية المصالح ، ثم إذا حضر الوقت الذي وقته الله تعالى لحدوث ذلك الحادث ، فإنه لا بد وأن يحدث فيه ، ويمتنع عليه التقدم والتأخر .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : المعتزلة احتجوا بقوله : ( قل لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا إلا ما شاء الله ) فقالوا : هذا الاستثناء يدل على أن العبد لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا إلا الطاعة والمعصية ، فهذا الاستثناء يدل على كون العبد مستقلا بهما .

                                                                                                                                                                                                                                            والجواب : قال أصحابنا : هذا استثناء منقطع ، والتقدير : ولكن ما شاء الله من ذلك كائن .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : قرأ ابن سيرين " فإذا جاء أجلهم " .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الرابعة : قوله ( إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ) يدل على أن أحدا لا يموت إلا بانقضاء أجله ، وكذلك المقتول لا يقتل إلا على هذا الوجه ، وهذه مسألة طويلة وقد ذكرناها في هذا الكتاب في مواضع كثيرة .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الخامسة : أنه تعالى قال ههنا : ( إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ) فقوله : ( إذا جاء أجلهم ) شرط ، وقوله : ( فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ) جزاء ، والفاء حرف الجزاء ، فوجب إدخاله على الجزاء كما في هذه الآية ، وهذه الآية تدل على أن الجزاء يحصل مع حصول الشرط لا متأخرا عنه وأن حرف الفاء لا يدل على التراخي ، وإنما يدل على كونه جزاء .

                                                                                                                                                                                                                                            إذا ثبت هذا فنقول : إذا قال الرجل لامرأة أجنبية إن نكحتك فأنت طالق قال الشافعي - رضي الله عنه - : لا يصح هذا التعليق ، وقال أبو حنيفة - رضي الله عنه - : يصح ، والدليل على أنه لا يصح أن هذه الآية دلت على [ ص: 88 ] أن الجزاء إنما يحصل حال حصول الشرط ، فلو صح هذا التعليق لوجب أن يحصل الطلاق مقارنا للنكاح ، لما ثبت أن الجزاء يجب حصوله مع حصول الشرط ، وذلك يوجب الجمع بين الضدين ، ولما كان هذا اللازم باطلا وجب أن لا يصح هذا التعليق .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية