الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 73 ] 294 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

في اللقاح التي كان من عقوبته لآخذيها

ما كان هل كانت من إبل الصدقة

أو كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم

1824 - حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا عبد الله بن وهب ، قال : أخبرني معاوية بن صالح .

وحدثنا الربيع بن سليمان الجيزي ، قال : حدثنا حجاج بن رشدين ، قال : حدثنا معاوية بن صالح ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب في الذين سرقوا لقاح رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخرجهم إلى لقاحه ، فقتلوا راعيها ، واستاقوها إلى أرض الشرك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اللهم عطش من عطش آل محمد في هذه الليلة ، ثم بعث في طلبهم فأخذوا فقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم أيديهم وأرجلهم ، وسمل أعينهم .

[ ص: 74 ] قال أبو جعفر : ففي هذا الحديث ما قد دل على أن اللقاح المفعول - كان - فيها ذلك الفعل ، كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا من الصدقة ؛ لأن الصدقة كانت حراما على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلى سائر بني هاشم ، وفي آله الذين دعا الله عز وجل أن يعطش من عطشهم بيانه ، ففي ذلك ما قد دل على أن الإبل كانت له لا من الصدقة .

فإن قال قائل : أفيجوز للأئمة بعده أن يقيموا العقوبات في مثل هذا على من فعلها في أموالهم ، كما يقيمونها على من فعلها في غير أموالهم ؟

فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله عز وجل وعونه أن للرسول صلى الله عليه وسلم في مثل هذا المعنى خلاف الأئمة بعده ، وأن له أن يقيم مثل هذا على من فعله في ماله كما يقيمه على مثل من فعله في مال من سواه ؛ لأن ما كان يفعله صلى الله عليه وسلم ، فبأمر الله كان يفعله ، فالحاكم به على من يفعل به الله عز وجل ، والقائم به بأمره هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإليه أن يفعل ذلك بالبينات والإقرارات جميعا .

وأما من سواه من الأئمة بعده فبخلاف ذلك في البينات ، وليس لهم أن يسمعوا بينة لإقامة عقوبة على من فعل في أموالهم ما يوجب تلك العقوبة ؛ لأنهم لا يصلح لهم أن يحكموا بتلك الأموال لأنفسهم على من هي في يده ممن يدعيها لنفسه دونهم ، ولهم أن يحكموا في ذلك بالإقرار على منتهكي ذلك في أموالهم ممن هو مقر بما انتهكه من ذلك ، وبوجوب العقوبة عليه فيه وتملكهم لتلك الأموال دونه . ومثل ذلك ما كان من أبي بكر الصديق رضي الله عنه في الأطلس الذي [ ص: 75 ] كان منه في بيت أسماء زوجته ما كان .

كما .

حدثنا يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا عبد الله بن وهب ، قال : أخبرني يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب أن عروة بن الزبير أخبره أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أن رجلا مولدا أطلس من أهل مكة كان يخدم أبا بكر في خلافته ، فلطف به حتى بعث أبو بكر رضي الله عنه مصدقا ، فبعثه معه وأوصاه به ، فلبث قريبا من شهر ثم جاء يوضع بعيره قد قطعه المصدق ، فلما رآه أبو بكر ، قال : ويلك ، ما لك ؟ قال يا أبا بكر : وجدني خنت فريضة فقطع فيها يدي ، قال أبو بكر رضي الله عنه : قاتل الله هذا الذي قطع يدك في فريضة خنتها ، والله إني لأراه يخون أكثر من ثلاثين فريضة ، والذي نفسي بيده لئن كنت صادقا لأقيدنك منه ، فمكث عند أبي بكر بمنزلته التي بها كان يقوم ، فيصلي من الليل ، فيتعار أبو بكر عن فراشه ، فإذا سمع قراءته فاضت عيناه ، وقال : قاتل الله الذي قطع يد هذا .

[ ص: 76 ] قالت : فبينا نحن على ذلك طرقت أسماء بنت عميس فسرق بيتها ، فلما صلى أبو بكر رضي الله عنه صلاة الفجر قام في الناس فقال : إن الحي قد طرقوا الليلة فسرقوا فانفضوا لابتغاء متاعهم ، قالت : فاستأذن علينا ذلك الأقطع وأنا جالسة في حجال فقال : يا أبا بكر سرقتم الليلة ؟ قال : نعم ، قال فرفع يده الصحيحة ويده الجذماء فقال : اللهم عين على سارق أبي بكر ، قالت : فوالله ما ارتفع النهار حتى أخذت السرقة من بيته ، فأتي به أبو بكر فقال له : ويحك والله ما أنت بالله بعالم ، اذهبوا به فاقطعوه
.

قال أبو جعفر : فقال قائل : ففي هذا الحديث قطع أبي بكر إياه لا بإقرار كان منه بالسرقة ، فذلك دليل على أن ذلك كان منه ببينة سمعها ، وهذا بخلاف ما ذهبت إليه أنت .

فكان جوابنا له بتوفيق الله عز وجل وعونه : أن الذي في الحديث من وجود الشيء المسروق في منزله دليل على أنه كان أقر مع ذلك بسرقته إياه ، وإن لم ينقل ذلك إلينا من روى الحديث ، وقد وجدنا ذلك منصوصا مذكورا في حديث ليس بدون ذلك الحديث .

وهو ما قد .

حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب أن مالكا أخبره ، [ ص: 77 ] عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن أبيه ، أن رجلا من أهل اليمن أقطع اليد والرجل قدم فنزل على أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، فشكا إليه أن عامل اليمن ظلمه ، فكان يصلي من الليل فيقول أبو بكر : ما ليلك بليل سارق ، ثم إنهم افتقدوا حليا لأسماء بنت عميس امرأة أبي بكر ، فجعل الرجل يطوف معهم ، ويقول : اللهم عليك بمن بيت أهل هذا البيت الصالح ، فوجدوا الحلي عند صائغ زعم أن الأقطع جاءه به ، فاعترف به الأقطع أو شهد عليه به ، فأمر به فقطعت يده اليسرى ، وقال أبو بكر : والله لدعاؤه على نفسه أشد عندي من سرقته .

فقال هذا القائل : ففي هذا الحديث الشك فيما كان قطع به من [ ص: 78 ] اعتراف أو شهادة عليه .

فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله وعونه : أن ذلك الشك إنما كان من بعض رواة الحديث وليس فيه تحقيق أن ذلك كان ببينة شهدت عليه فوجب بذلك طلب الحقيقة في ذلك ما هي . ؟

فوجدنا ابن أبي مريم قد حدثنا قال : حدثنا الفريابي ، قال : حدثنا سفيان ، عن عبد الرحمن بن القاسم ، عن القاسم أن رجلا نزل بأبي بكر مقطوع اليد والرجل فقال من قطعك ؟ قال : أمير اليمن فقال أبو بكر : لئن قدرت عليه فجعل يصلي بالليل فقال أبو بكر ما ليلك بليل سارق ففقدوا لأسماء حليا ، قال : فجعل يدعو على من أخذه وقال أهل بيت صالحون ، قال : فوجدوه عند صائغ فأشار به فاعترف فأرادأبو بكر أن يقطع رجله فأبوا عليه ، وقالوا قد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سن اليد بعد الرجل فقطع يده ، فقال أبو بكر : لغرته بالله أشد علي من سرقته .

[ ص: 79 ] فعقلنا بذلك أن الحقيقة كانت بالحجة التي أقيم بها على ذلك السارق ما أقيم عليه هي إقراره ، لا ببينة شهدت عليه بذلك ، ووقفنا بذلك على أن الشك الذي في الحديث الأول كان من دون عبد الرحمن بن القاسم ، وأنه كان من مالك وأن الذي كان من الثوري في ذلك حفظ الحقيقة فيه ، فكان به أولى من غيره ، وفيما ذكرنا من ذلك ما قد يوجب به أن للإمام سوى النبي صلى الله عليه وسلم إقامة العقوبات على منتهكي الحرمات المنتهكات في ماله المقرين بذلك ، كما يقيمها على منتهكها في مال غيره .

فقال هذا القائل : ففي هذا الحديث أن الحلي المسروق فيه إنما هو لأسماء لا لأبي بكر ، فليس في ذلك ما يدفع أن يكون لأبي بكر في ذلك إقامة العقوبة بالبينة الشاهدة عنده على استحقاق ذلك .

فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله عز وجل وعونه : أن ذلك الشيء وإن لم يكن كان لأبي بكر رضي الله عنه فقد كان لزوجته ، وليس للرجل أن يشهد في مال زوجته به لها كما لا يشهد في مال نفسه به لنفسه .

والدليل على ذلك قول عمر رضي الله عنه لعبد الله بن عمرو بن الحضرمي لما جاءه بغلامه فقال : إن هذا سرق شيئا ذكره لامرأتي ، فقال له عمر : لا قطع عليه غلامكم سرق مالكم . حدثناه يونس ، قال : حدثنا سفيان ، عن الزهري ، عن السائب بن يزيد ، عن عبد الله بن عمرو بن الحضرمي .

[ ص: 80 ] فأخبر عمر رضي الله عنه أن السارق من مال زوجته ممن لا يقطع لو سرق ذلك من ماله إذ كان مملوكا له لا قطع عليه فيه إذا سرق من مال زوجته ، ففي ذلك ما دل أنه ما ليس للإمام أن يفعله بالمنتهك الحرمات في ماله ليس له فعل مثله بمنتهكي الحرمات من مال زوجته ، والله نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية