الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          [ بأس ]

                                                          بأس : الليث : البأساء اسم الحرب والمشقة والضرب . والبأس : العذاب . والبأس : الشدة في الحرب . وفي حديث علي - رضوان الله عليه : كنا إذا اشتد البأس اتقينا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - . يريد الخوف ولا يكون إلا مع الشدة . ابن الأعرابي : البأس والبئيس على مثال فعل ، العذاب الشديد . ابن سيده : البأس الحرب ثم كثر حتى قيل لا بأس عليك ، ولا بأس أي لا خوف ; قال قيس بن الخطيم :


                                                          يقول لي الحداد ، وهو يقودني إلى السجن لا تجزع فما بك من باس



                                                          أراد فما بك من بأس ، فخفف تخفيفا قياسيا لا بدليا ، ألا ترى أن فيها :


                                                          وتترك عذري وهو أضحى من الشمس



                                                          فلولا أن قوله من باس في حكم قوله من بأس ، مهموزا ; لما جاز أن يجمع بين بأس ، هاهنا مخففا ، وبين قوله من الشمس لأنه كان يكون أحد الضربين مردفا والثاني غير مردف . والبئس : كالبأس . وإذا قال الرجل لعدوه : لا بأس عليك فقد أمنه ; لأنه نفى البأس عنه ، وهو في لغة حمير لبات أي لا بأس عليك ، قال شاعرهم :


                                                          شرينا النوم ، إذ غضبت غلاب     بتشهيد وعقد غير مين
                                                          تنادوا عند غدرهم : لبات !     وقد بردت معاذر ذي رعين



                                                          ولبات بلغتهم : لا بأس ; قال الأزهري : كذا وجدته في كتاب شمر . وفي الحديث : نهى عن كسر السكة الجائزة بين المسلمين إلا من بأس ، يعني الدنانير والدراهم المضروبة ، أي : لا تكسر إلا من أمر يقتضي كسرها ، إما لرداءتها أو شك في صحة نقدها ، وكره ذلك لما فيها من اسم الله تعالى ، وقيل : لأن فيه إضاعة المال ، وقيل : إنما نهى عن كسرها على أن تعاد تبرا ، فأما للنفقة فلا ، وقيل : كانت المعاملة بها في صدر الإسلام عددا لا وزنا ، وكان بعضهم يقص أطرافها فنهوا عنه . ورجل بئس : شجاع ، بئس بأسا وبؤس بأسة . أبو زيد : بؤس الرجل يبؤس بأسا إذا كان شديد البأس شجاعا ; حكاه أبو زيد في كتاب الهمز ، فهو بئيس ; على فعيل ، أي شجاع . وقوله عز وجل : ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد ; قيل : هم بنو حنيفة قاتلهم أبو بكر - رضي الله عنه - في أيام مسيلمة ، وقيل : هم هوازن ، وقيل : هم فارس والروم . والبؤس : الشدة والفقر . وبئس الرجل يبأس بؤسا وبأسا وبئيسا إذا افتقر واشتدت حاجته ، فهو بائس أي فقير ; وأنشد أبو عمرو :


                                                          وبيضاء من أهل المدينة لم تذق     بئيسا ، ولم تتبع حمولة مجحد



                                                          قال : وهو اسم وضع موضع المصدر ; قال ابن بري : البيت للفرزدق ، وصواب إنشاده لبيضاء من أهل المدينة ; وقبله :


                                                          إذا شئت غناني من العاج قاصف     على معصم ريان لم يتخدد



                                                          [ ص: 9 ] وفي حديث الصلاة : تقنع يديك وتبأس ; هو من البؤس الخضوع والفقر ، ويجوز أن يكون أمرا وخبرا ; ومنه حديث عمار : بؤس ابن سمية ! كأنه ترحم له من الشدة التي يقع فيها ; ومنه الحديث : كان يكره البؤس والتباؤس ; يعني عند الناس ، ويجوز التبؤس بالقصر والتشديد . قال سيبويه : وقالوا بؤسا له في حد الدعاء ، وهو مما انتصب على إضمار الفعل غير المستعمل إظهاره . والبأساء والمبأسة : كالبؤس ; قال بشر بن أبي خازم :


                                                          فأصبحوا بعد نعماهم بمبأسة     والدهر يخدع أحيانا فينصرف



                                                          وقوله تعالى : فأخذناهم بالبأساء والضراء ; قال الزجاج : البأساء الجوع والضراء في الأموال والأنفس . وبئس يبأس ويبئس ; الأخيرة نادرة ، قال ابن جني : هو . . . كرم يكرم على ما قلناه في نعم ينعم . وأبأس الرجل : حلت به البأساء ; عن ابن الأعرابي ، وأنشد :


                                                          تبز عضاريط الخميس ثيابها     فأبأست . . . يوم ذلك وابنما



                                                          والبائس : المبتلى ; قال سيبويه : البائس من الألفاظ المترحم بها كالمسكين ، قال : وليس كل صفة يترحم بها وإن كان فيها معنى البائس والمسكين ، وقد بؤس بأسة وبئيسا ، والاسم البؤسى ; وقول تأبط شرا :


                                                          قد ضقت من حبها ما لا يضيقني     حتى عددت من البوس المساكين



                                                          قال ابن سيده : يجوز أن يكون عنى به جمع البائس ، ويجوز أن يكون من ذوي البؤس ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه . والبائس : الرجل النازل به بلية أو عدم يرحم لما به . ابن الأعرابي : يقال بوسا وتوسا وجوسا له بمعنى واحد . والبأساء : الشدة ; قال الأخفش : بني على فعلاء وليس له أفعل لأنه اسم كما قد يجيء أفعل في الأسماء ليس معه فعلاء نحو أحمد . والبؤسى : خلاف النعمى ; الزجاج : البأساء والبؤسى من البؤس ، قال ذلك ابن دريد ، وقال غيره : هي البؤسى والبأساء ضد النعمى والنعماء ، وأما في الشجاعة والشدة فيقال البأس . وابتأس الرجل ، فهو مبتئس . ولا تبتئس أي لا تحزن ولا تشتك . والمبتئس : الكاره والحزين ; قال حسان بن ثابت :


                                                          ما يقسم الله أقبل غير مبتئس     منه ، وأقعد كريما ناعم البال



                                                          أي غير حزين ولا كاره . قال ابن بري : الأحسن فيه عندي قول من قال : إن مبتئسا مفتعل من البأس الذي هو الشدة ، ومنه قوله سبحانه : فلا تبتئس بما كانوا يفعلون ; أي : فلا يشتد عليك أمرهم ، فهذا أصله لأنه لا يقال ابتأس بمعنى كره ، وإنما الكراهة تفسير معنوي ; لأن الإنسان إذا اشتد به أمر كرهه ، وليس اشتد بمعنى كره . ومعنى بيت حسان أنه يقول : ما يرزق الله تعالى من فضله أقبله راضيا به وشاكرا له عليه غير متسخط منه ، ويجوز في ( منه ) أن تكون متعلقة بأقبل أي : أقبله منه غير متسخط ولا مشتد أمره علي ; وبعده :


                                                          لقد علمت بأني غالبي خلقي     على السماحة ، صعلوكا وذا مال
                                                          والمال يغشى أناسا لا طباخ بهم     كالسل يغشى أصول الدندن البالي



                                                          والطباخ : القوة والسمن . والدندن : ما بلي وعفن من أصول الشجر . وقال الزجاج : المبتئس المسكين الحزين ، وبه فسر قوله تعالى : فلا تبتئس بما كانوا يعملون ; أي لا تحزن ولا تستكن . أبو زيد : وابتأس الرجل إذا بلغه شيء يكرهه ; قال لبيد :


                                                          في ربرب كنعاج صا     رة يبتئسن بما لقينا



                                                          وفي الحديث في صفة أهل الجنة : " إن لكم أن تنعموا فلا تبؤسوا " ; بؤس يبؤس ، بالضم فيهما ، بأسا إذا اشتد . والمبتئس : الكاره والحزين . والبئوس : الظاهر البؤس . وبئس : نقيض نعم ; وقوله أنشده ابن الأعرابي :


                                                          إذا فرغت من ظهره بطنت له     أنامل لم يبأس عليها دءوبها



                                                          فسره فقال : يصف زماما ، وبئسما دأبت أي : لم يقل لها بئسما عملت ; لأنها عملت فأحسنت ، قال : لم يسمع إلا في هذا البيت . وبئس : كلمة ذم ، ونعم : كلمة مدح . تقول : بئس الرجل زيد وبئست المرأة هند ، وهما فعلان ماضيان لا يتصرفان ; لأنهما أزيلا عن موضعهما ، فنعم منقول من قولك نعم فلان إذا أصاب نعمة ، وبئس منقول من بئس فلان إذا أصاب بؤسا ، فنقلا إلى المدح والذم فشابها الحروف فلم يتصرفا ، وفيهما لغات تذكر في ترجمة نعم - إن شاء الله تعالى . وفي حديث عائشة - رضي الله عنها : بئس أخو العشيرة ; بئس مهموز فعل جامع لأنواع الذم وهو ضد نعم في المدح ، قال الزجاج : بئس ونعم هما حرفان لا يعملان في اسم علم ، وإنما يعملان في اسم منكور دال على جنس ، وإنما كانتا كذلك لأن نعم مستوفية لجميع المدح ، وبئس مستوفية لجميع الذم ، فإذا قلت : بئس الرجل دللت على أنه قد استوفى الذم الذي يكون في سائر جنسه ، وإذا كان معهما اسم جنس بغير ألف ولام فهو نصب أبدا ، فإذا كانت فيه الألف واللام فهو رفع أبدا ، وذلك قولك : نعم رجلا زيد ، ونعم الرجل زيد ، وبئس رجلا زيد ، وبئس الرجل زيد ، والقصد في بئس ونعم أن يليهما اسم منكور أو اسم جنس ، وهذا قول الخليل ، ومن العرب من يصل بئس بما قال الله عز وجل : ولبئس ما شروا به أنفسهم . وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " بئسما لأحدكم أن يقول نسيت أنه كيت وكيت ، أما إنه ما نسي ولكنه أنسي " . والعرب تقول : بئسما لك أن تفعل كذا وكذا ، إذا أدخلت ما في بئس أدخلت بعد ما أن مع الفعل : بئسما لك أن تهجر أخاك وبئسما لك أن تشتم الناس ; وروى جميع النحويين : بئسما تزويج ولا مهر ، والمعنى فيه : بئس تزويج ولا مهر ; قال الزجاج : بئس إذا وقعت على ما جعلت " ما " معها بمنزلة اسم منكور ; لأن بئس ونعم لا يعملان في اسم علم إنما يعملان في اسم [ ص: 10 ] منكور دال على جنس . وفي التنزيل العزيز : بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون ; قرأ أبو عمرو وعاصم والكسائي وحمزة : بعذاب بئيس ، على فعيل ، وقرأ ابن كثير : بئيس ، على فعيل وكذلك قرأها شبل وأهل مكة وقرأ ابن عامر : بئس ، على فعل ، بهمزة وقرأها نافع وأهل مكة : بيس ، بغير همز . قال ابن سيده : عذاب بئس وبيس وبئيس أي شديد ، وأما قراءة من قرأ بعذاب بيئس فبنى الكلمة مع الهمزة على مثال فيعل ، وإن لم يكن ذلك إلا في المعتل نحو سيد وميت ، وبابهما يوجهان العلة وإن لم تكن حرف علة فإنها معرضة للعلة وكثيرة الانقلاب عن حرف العلة ، فأجريت مجرى التعرية في باب الحذف والعوض . وبيس كخيس : يجعلها بين بين من بئس ثم يحولها بعد ذلك ، وليس بشيء . وبيس على مثال سيد وهذا بعد بدل الهمزة في بيئس . والأبؤس : جمع بؤس ، من قولهم : يوم بؤس ويوم نعم . والأبؤس أيضا : الداهية . وفي المثل : عسى الغوير أبؤسا . وقد أبأس إبآسا ; قال الكميت :


                                                          قالوا : أساء بنو كرز ، فقلت لهم :     عسى الغوير بإبآس وإغوار



                                                          قال ابن بري : الصحيح أن الأبؤس جمع بأس ، وهو بمعنى الأبؤس ; لأن باب فعل أن يجمع في القلة على أفعل نحو كعب وأكعب وفلس وأفلس ونسر وأنسر ، وباب فعل أن يجمع في القلة على أفعال نحو قفل وأقفال وبرد وأبراد وجند وأجناد . يقال : بئس الشيء يبئس بؤسا وبأسا إذا اشتد ، قال : وأما قوله والأبؤس الداهية ، قال : صوابه أن يقول الدواهي ; لأن الأبؤس جمع لا مفرد ، وكذلك هو في قول الزباء : عسى الغوير أبؤسا ، هو جمع بأس على ما تقدم ذكره ، وهو مثل أول من تكلم به الزباء . قال ابن الكلبي : التقدير فيه : عسى الغوير أن يحدث أبؤسا ، قال : هو جمع بأس ، ولم يقل : جمع بؤس ، وذلك أن الزباء لما خافت من قصير قيل لها : ادخلي الغار الذي تحت قصرك ، فقالت : عسى الغوير أبؤسا أي إن فررت من بأس واحد فعسى أن أقع في أبؤس ، وعسى هاهنا إشفاق ; قال سيبويه : عسى طمع وإشفاق ، يعني : أنها طمع في مثل قولك : عسى زيد أن يسلم ، وإشفاق مثل هذا المثل : عسى الغوير أبؤسا ، وفي مثل قول بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم : عسى أن يضرني شبهه يا رسول الله ، فهذا إشفاق لا طمع ، ولم يفسر معنى هذا المثل ولم يذكر في أي معنى يتمثل به ; قال ابن الأعرابي : هذا المثل يضرب للمتهم بالأمر ، ويشهد بصحة قوله قول عمر - رضي الله عنه - لرجل أتاه بمنبوذ : عسى الغوير أبؤسا ، وذلك أنه اتهمه أن يكون صاحب المنبوذ ; وقال الأصمعي : هو مثل لكل شيء يخاف أن يأتي منه شر ; قال : وأصل هذا المثل أنه كان غار فيه ناس فانهار عليهم أو أتاهم فيه فقتلهم . وفي حديث عمر - رضي الله عنه : عسى الغوير أبؤسا ; وهو جمع بأس ، وانتصب على أنه خبر عسى . والغوير : ماء لكلب ، ومعنى ذلك عسى أن تكون جئت بأمر عليك فيه تهمة وشدة .

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية