الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
[ ص: 257 ] الكلام عن وضع الجوائح ]

المثال الرابع والأربعون : رد السنة الصحيحة الصريحة المحكمة في وضع الجوائح ، بأنها خلاف الأصول كما في صحيح مسلم عن جابر يرفعه : { لو بعت من أخيك ثمرا فأصابته جائحة فلا يحل لك أن تأخذ منه شيئا ، بم تأخذ مال أخيك بغير حق ؟ } وروى سفيان بن عيينة عن حميد عن سليمان عن جابر { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : نهى عن بيع السنين ، وأمر بوضع الجوائح } فقالوا : هذه خلاف الأصول ; فإن المشتري قد ملك الثمرة وملك التصرف فيها ، وثم نقل الملك إليه ، ولو ربح فيها كان الربح له ، فكيف تكون من ضمان البائع ؟ وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد قال : { أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها ، فكثر دينه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تصدقوا عليه فتصدقوا عليه ، فلم يبلغ ذلك وفاء دينه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : خذوا ما وجدتم ، وليس لكم إلا ذلك } وروى مالك عن أبي الرجال عن أمه عمرة { أنه سمعها تقول : ابتاع رجل ثمر حائط في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعالجه ، وأقام عليه حتى تبين له النقصان ، فسأل رب الحائط أن يضع عنه ، فحلف لا يفعل ، فذهبت أم المشتري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكرت له ذلك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تألى أن لا يفعل خيرا فسمع بذلك رب المال ، فأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله هو له } .

والجواب أن وضع الجوائح لا يخالف شيئا من الأصول الصحيحة ، بل هو مقتضى أصول الشريعة ، ونحن بحمد الله نبين هذا بمقامين ; أما الأول فحديث وضع الجوائح لا يخالف كتابا ولا سنة ولا إجماعا ، وهو أصل بنفسه ; فيجب قبوله ، وأما ما ذكرتم من القياس فيكفي في فساده شهادة النص له بالإهدار ، كيف وهو فاسد في نفسه ؟

وهذا يتبين بالمقام الثاني ، وهو أن وضع الجوائح كما هو موافق للسنة الصحيحة الصريحة فهو مقتضى القياس الصحيح ; فإن المشتري لم يتسلم الثمرة ولم يقبضها القبض التام الذي يوجب نقل الضمان إليه ; فإن قبض كل شيء بحسبه ، وقبض الثمار إنما يكون عند كمال إدراكها شيئا فشيئا فهو كقبض المنافع في الإجارة ، وتسليم الشجرة إليه كتسليم العين المؤجرة من الأرض والعقار والحيوان ، وعلق البائع لم تنقطع عن المبيع ، فإن له سقي الأصل وتعاهده ، كما لم تنقطع علق المؤجر عن العين المستأجرة ، والمشتري لم يتسلم التسليم التام كما لم يتسلم المستأجر التسليم التام ، فإذا جاء أمر غالب اجتاح الثمرة من غير تفريط من المشتري لم يحل للبائع إلزامه بثمن ما أتلفه الله سبحانه منها قبل تمكنه من قبضها القبض المعتاد .

وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : { أرأيت إن منع الله الثمرة ؟ فبم يأخذ أحدكم مال أخيه بغير حق ؟ } فذكر الحكم وهو قوله : { فلا يحل له أن يأخذ منه شيئا } وعلة الحكم وهو قوله : { أرأيت إن [ ص: 258 ] منع الله الثمرة } إلى آخرة .

وهذا الحكم نص لا يحتمل التأويل ، والتعليل وصف مناسب لا يقبل الإلغاء ولا المعارضة . وقياس الأصول لا يقتضي غير ذلك ، ولهذا لو تمكن من القبض المعتاد في وقته ثم أخره لتفريط منه أو لانتظار غلاء السعر كان التلف من ضمانه ولم توضع عنه الجائحة . وأما معارضة هذه السنة بحديث الذي أصيب في ثمار ابتاعها فمن باب رد المحكم بالمتشابه ; فإنه ليس فيه أنه أصيب فيها بجائحة ، فليس في الحديث أنها كانت جائحة عامة ، بل لعله أصيب فيها بانحطاط سعرها .

وإن قدر أن المصيبة كانت جائحة فليس في الحديث أنها كانت جائحة عامة ، بل لعلها جائحة خاصة كسرقة اللصوص التي يمكن الاحتراز منها ، ومثل هذا لا يكون جائحة تسقط الثمن عن المشتري ، بخلاف نهب الجيوش والتلف بآفة سماوية ، وإن قدر أن الجائحة عامة فليس في الحديث ما يبين أن التلف لم يكن بتفريطه في التأخير ، ولو قدر أن التلف لم يكن بتفريطه فليس فيه أنه طلب الفسخ وأن توضع عند الجائحة ، بل لعله رضي بالمبيع ولم يطلب الوضع ، والحق في ذلك له : إن شاء طلبه ، وإن شاء تركه ، فأين في الحديث أنه طلب ذلك ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم منع منه ؟

ولا يتم الدليل إلا بثبوت المقدمتين ، فكيف يعارض نص قوله الصحيح الصريح المحكم الذي لا يحتمل غير معنى واحد وهو نص فيه بهذا الحديث المتشابه ؟ ثم قوله فيه : { ليس لكم فيه إلا ذلك } دليل على أنه لم يبق لبائعي الثمار من ذمة المشتري غير ما أخذه ، وعندكم المال كله في ذمته ; فالحديث حجة عليكم .

وأما المعارضة بخبر مالك فمن أبطل المعارضات وأفسدها ، فأين فيه أنه أصابته جائحة بوجه ما ؟ وإنما فيه أنه عالجه وأقام عليه حتى تبين له النقصان ، ومثل هذا لا يكون سببا لوضع الثمن ، وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية