الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            [ ص: 351 ] مسألة ; قال : ( ولا يبرأ المضمون عنه إلا بأداء الضامن ) يعني أن المضمون عنه لا يبرأ بنفس الضمان ، كما يبرأ المحيل بنفس الحوالة قبل القبض ، بل يثبت الحق في ذمة الضامن ، مع بقائه في ذمة المضمون عنه ، ولصاحب الحق مطالبة من شاء منهما في الحياة وبعد الموت . وبهذا قال الثوري والشافعي وإسحاق وأبو عبيد ، وأصحاب الرأي . وقال أبو ثور : الكفالة والحوالة سواء ، وكلاهما ينقل الحق عن ذمة المضمون عنه والمحيل .

                                                                                                                                            وحكي ذلك عن ابن أبي ليلى وابن شبرمة وداود ، واحتجوا بما روى أبو سعيد الخدري قال : { كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة ، فلما وضعت ، قال : هل على صاحبكم من دين ؟ قالوا : نعم ، درهمان فقال : صلوا على صاحبكم . فقال علي : هما علي يا رسول الله ، وأنا لهما ضامن . فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى عليه ، ثم أقبل على علي : فقال : جزاك الله خيرا عن الإسلام ، وفك رهانك كما فككت رهان أخيك . فقيل : يا رسول الله ، هذا لعلي خاصة ، أم للناس عامة ؟ فقال : للناس عامة } . رواه الدارقطني . فدل على أن المضمون عنه برئ بالضمان .

                                                                                                                                            وروى الإمام أحمد في " المسند " ، عن جابر ، قال : { توفي صاحب لنا ، فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه ، فخطا خطوة ، ثم قال : أعليه دين ؟ قلنا : ديناران . فانصرف ، فتحملهما أبو قتادة . فقال : الديناران علي . فقال . رسول الله صلى الله عليه وسلم : وجب حق الغريم ، وبرئ الميت منهما ؟ قال : نعم . فصلى عليه ، ثم قال بعد ذلك : ما فعل الديناران ؟ قال : إنما مات أمس . قال : فعاد إليه من الغد ، فقال : قد قضيتهما . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الآن بردت جلدته } . وهذا صريح في براءة المضمون عنه لقوله : " وبرئ الميت منهما " .

                                                                                                                                            ولأنه دين واحد ، فإذا صار في ذمة ثانية برئت الأولى منه ، كالمحال به ; وذلك لأن الدين الواحد لا يحل في محلين . ولنا ، قول النبي صلى الله عليه وسلم { : نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه } . وقوله في خبر أبي قتادة : " الآن بردت جلده " . حين أخبره أنه قضى دينه ، ولأنها وثيقة ، فلا تنقل الحق ، كالشهادة . وأما صلاة النبي صلى الله عليه وسلم على المضمون عنه ، فلأنه بالضمان صار له وفاء ، وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يمتنع من الصلاة على مدين لم يخلف وفاء .

                                                                                                                                            وأما قوله لعلي { : فك الله رهانك ، كما فككت رهان أخيك } . فإنه كان بحال لا يصلي عليه النبي صلى الله عليه وسلم فلما ضمنه فكه من ذلك ، أو مما في معناه . وقوله : " برئ الميت منهما " أي صرت أنت المطالب بهما . وهذا على سبيل التأكيد ; لثبوت الحق في ذمته ، ووجوب الأداء عليه ، بدليل قوله في سياق الحديث ، حين أخبره بالقضاء : " الآن بردت عليه جلده " . ويفارق الضمان الحوالة ; فإن الضمان مشتق من الضم ، فيقتضي الضم بين الذمتين في تعلق الحق بهما وثبوته فيهما .

                                                                                                                                            والحوالة من التحول ، فتقتضي تحول الحق من محله إلى ذمة المحال عليه . وقولهم : إن الدين الواحد لا يحل في محلين . قلنا : يجوز تعلقه بمحلين على سبيل الاستيثاق ، كتعلق دين الرهن به وبذمة الراهن . وقال أبو بكر عبد العزيز : أما الحي فلا يبرأ بمجرد الضمان ، رواية واحدة ، وأما الميت ففي براءته بمجرد الضمان ، روايتان ; إحداهما ، يبرأ بمجرد الضمان .

                                                                                                                                            نص عليه أحمد ، في رواية يوسف بن موسى ; لما ذكرنا من الخبرين ، ولأن فائدة الضمان في حقه تبرئة ذمته ; فينبغي أن تحصل هذه الفائدة بمجرد الضمان ، بخلاف الحي ، فإن المقصود من الضمان في حقه الاستيثاق ، وثبوته في الذمتين آكد في الاستيثاق . [ ص: 352 ] والثانية ، لا يبرأ إلا بالأداء ; لما ذكرناه ، ولأنه ضمان ، فلا يبرأ به المضمون عنه كالحي .

                                                                                                                                            ( 3578 ) فصل : ولصاحب الحق مطالبة من شاء منهما . وحكي عن مالك في إحدى الروايتين عنه ، أنه لا يطالب الضامن إلا إذا تعذر مطالبة المضمون عنه ; لأنه وثيقة ، فلا يستوفى الحق منها إلا عند تعذر استيفائه من الأصل ، كالرهن .

                                                                                                                                            ولنا ، أن الحق ثابت في ذمة الضامن ، فملك مطالبته ، كالأصيل ، ولأن الحق ثابت في ذمتهما ، فملك مطالبة من شاء منهما ، كالضامنين إذا تعذرت مطالبة المضمون عنه . ولا يشبه الرهن ; لأنه مال من عليه الحق ، وليس بذي ذمة يطالب ، إنما يطالب من عليه الدين ، ليقضي منه أو من غيره .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية