الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
[ ص: 26 ] باب مكاتبة الوصي . ( قال ) رضي الله عنه : وللوصي أن يكاتب عبد اليتيم استحسانا ، وفي القياس لا يصح ذلك منه ; لأنه إرفاق للحال وإعتاق باعتبار المآل .

وجه الاستحسان أن الوصي قائم مقام اليتيم فيما فيه النظر له والكتابة أنظر له من البيع ; لأن بالبيع يزول ملكه عن العين قبل وصول البدل إليه وبالكتابة لا يزول ملكه عن العين إلا بعد وصول المال إليه وتسقط نفقته عنه في الحال وإذا تعذر وصول المال إليه بعجزه تفسخ الكتابة فكان عبدا له على حاله فإذا ملك البيع ملك الكتابة بالطريق الأولى فإن وهب المال له بعد الكتابة لم يجز ; لأنه تبرع بما لا يملكه فلا يصح من جهته ولا من جهة الصبي ; لأنه ليس بقائم مقامه في التبرع ، وإن أقر بالقبض صدق ; لأن المال وجب بعقده ، وهو يملك مباشرة قبضه فيصح إقراره بالقبض أيضا ( فإن قيل ) فعلى قياس هذا ينبغي أن تصح هبته في حق المكاتب لما كان الوجوب بعقده كما لو باعه من إنسان ، ثم أبرأ المشتري عن الثمن جاز في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى ( قلنا ) ; لأن في البيع هو كالعاقد لنفسه فيما هو من حقوق عقده ولهذا كان قبض الثمن إليه بعد بلوغ اليتيم فأما في الكتابة هو معبر عن اليتيم ولهذا لا يملك قبض البدل بعد بلوغ اليتيم فيكون هو بالهبة متبرعا بما لا يملكه ولأن هبة البدل من المكاتب إعتاق له والوصي لا يملك الإعتاق فأما الإقرار بالقبض ليس بإعتاق ولكنه إقرار بما يملك الإنشاء فيه .

وإن قال كنت كاتبته وأدى إلي لم يصدق ; لأن الإقرار بالكتابة وقبض البدل إعتاق له ( فإن قيل ) أليس أنه يملك إنشاء الكتابة واستيفاء البدل فينبغي أن يصلح إقراره به ؟ ( قلنا ) : إنما يملك الإنشاء ; لأنه يدخل بتصرفه في ملك اليتيم ظاهرا مثل ما يخرجه عن ملكه ، وذلك لا يوجد في الإقرار ( فإن قيل ) فكذلك إذا أقر باستيفاء البدل بعد ما باشر الكتابة ( قلنا ) : هناك بمباشرة الكتابة يدخل في ملكه ظاهرا مثل ما يخرجه من ملكه ، ثم الإقرار بالقبض ليس يخرج من ملكه شيئا إنما يقرر ملكه في البدل بقبضه ، ولو وكل الوصي بقبض بدل الكتابة جاز ; لأنه يملك مباشرة القبض بولايته فيصح توكيله به غيره كالأب فإن كاتبه ، ثم أدرك اليتيم فلم يرض به فالكتابة ماضية ; لأنه تصرف نفذ من الوصي في حال قيام ولايته فلا يملك اليتيم إبطاله بعد البلوغ كالبيع وهذا ; لأن فعله في حال [ ص: 27 ] بقاء ولايته كفعل اليتيم بنفسه غير أنه لا يدفع المال إلى الوصي ; لأن ولاية القبض له كان بطريق نيابته عن اليتيم ، وقد زال ذلك فهو كدين وجب ليتيم لا بعقد الوصي لا يملك الوصي قبضه بعد بلوغه وهذا ; لأن العاقد في باب الكتابة سفير .

ألا ترى أن الوكيل بالكتابة لا يملك القبض وأنه ليس عليه تسليم المعقود عليه فلا يقبض البدل بحكم العقد أيضا ولكن القبض إلى اليتيم بعد بلوغه ولا يعتق المكاتب إلا بالأداء إليه أو إلى وكيله .

وكذلك لو كان القاضي عزل الوصي الذي كان كاتب وجعل غيره وصيا كان قبض البدل إلى الثاني دون الأول حتى ولو أدى إلى الأول أو أدى إلى اليتيم لم يعتق ولا يجوز لأحد الوصيين أن يكاتب بغير إذن صاحبه في قول أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى ويجوز في قول أبي يوسف رحمه الله تعالى بمنزلة بيع أحد الوصيين عبد اليتيم فإن عندهما لا ينفرد به أحدهما ; لأن الأب أقام رأيهما مقام رأي نفسه ، ورأي المثنى لا يكون كرأي الواحد ، وأبو يوسف رحمه الله تعالى يقول : تصرف الوصي بحكم ولايته ولكل واحد من الوصيين ولاية تامة ولا يجوز للوصي أن يعتق على مال كما لا يعتق بغير مال ; لأن العبد يخرج من ملك اليتيم بنفس القبول والبدل في ذمة مفلسة كالتاوي ، وكذلك لا يبيع نفس العبد منه بمال ; لأنه إعتاق بجعل ألا ترى أنه إذا صح عتق بنفس القبول قبل أداء المال بخلاف الكتابة ولا يجوز للوصي أن يكاتب إذا كانت الورثة كبارا غيبا كانوا أو حضورا ; لأنه ليس له على الورثة الكبار ولاية وإنما له حفظ المال عليهم فإنما يملك التصرفات فيما يرجع إلى الحفظ والكتابة ليس من هذه الجملة ألا ترى أنه لا يبيع العقار .

( قال ) وكذلك لو كانوا صغارا فأدركوا ، ثم كاتبه الوصي لم يجز كما لو كانوا كبارا ألا ترى أنهم لو كاتبوه بأنفسهم صح منهم وإنما ثبت الولاية للوصي في حال لا يملك المولى عليهم مباشرة التصرف بنفسه وكذا إن كان بعض الورثة كبارا فأبوا أن يجيزوا كتابة الوصي لم تجز مكاتبته ; لأنه لا ولاية له في نصيب الكبار والصغير لو كان بالغا فكاتب نصيبه بنفسه كان للآخر أن يفسخ الكتابة فكذا إذا فعله الوصي وإن كانت الورثة صغارا وعلى الميت دين فكاتب الوصي عبدا من تركته لم يجز وإن كان الدين لا يحيط بماله ; لأن حق الغريم مقدم وما لم يصل إليه كمال حقه لا يسلم شيء من التركة إلى الوارث فلا يمكن تصحيح كتابته للغريم إذ ليس للوصي عليه ولاية ولا لليتيم ; لأنه لا يسلم له شيء إلا بعد وفاء الدين ولا للميت ; لأن حقه في تفريغ ذمته ويتأخر ذلك في كتابته فلهذا لم يجز عقده إلا أن يستوفي الغريم [ ص: 28 ] حقه من بقية التركة فحينئذ تنفذ الكتابة ; لأن المانع قيام حق الغريم وقد زال ذلك بوصول دينه إليه .

وكذلك إن كان مكان الدين وصية بالثلث ; لأنه لا ولاية للوصي على الموصى له في كتابة نصيبه وثلث العبد بالوصية صار له فلا تنفذ الكتابة من الوصي فيه كما لو كان بعض الورثة كبارا .

التالي السابق


الخدمات العلمية