الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (26) قوله تعالى : اللهم : اختلف البصريون والكوفيون في هذه اللفظة الكريمة . فقال البصريون : الأصل يا الله ، فحذف حرف النداء ، وعوض عنه هذه الميم المشددة . وهذا خاص بهذا الاسم الشريف فلا يجوز تعويض الميم من حرف النداء في غيره ، واستدلوا على أنها عوض من "يا " أنهم لم يجمعوا بينهما فلا يقال : يا اللهم إلا في ضرورة كقوله :

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 98 ]

                                                                                                                                                                                                                                      1212 - وما عليك أن تقولي كلما سبحت أو هللت يا اللهم ما     أردد علينا شيخنا مسلما



                                                                                                                                                                                                                                      وقال الكوفيون : الميم المشددة بقية فعل محذوف تقديره : "أمنا بخير " أي : اقصدنا به ، من قولك : "أممت زيدا " أي قصدته ، ومنه : ولا آمين البيت الحرام أي : قاصديه ، وعلى هذا فالجمع بين "يا " والميم ليس بضرورة عندهم ، إذ ليست عوضا منها . وقد رد عليهم البصريون هذا بأنه قد سمع "اللهم أمنا بخير " وقال تعالى : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر فقد صرح بالمدعو به ، فلو كانت الميم بقية "أمنا " لفسد المعنى فبان بطلانه . وهذا من الأسماء التي لزمت النداء فلا يجوز أن يقع في غيره ، وقد وقع في ضرورة الشعر كونه فاعلا . أنشد الفراء :


                                                                                                                                                                                                                                      1213 - كحلفة من أبي دثار     يسمعها اللهم الكبار



                                                                                                                                                                                                                                      فاستعمله هنا فاعلا بقوله : "يسمعها " ولا يجوز تخفيف ميمه ، وجوزه الفراء وأنشد البيت : "يسمعها اللهم الكبار " بتخفيف الميم ؛ إذ لا يمكنه استقامة الوزن إلا بذلك . قال بعضهم : "هذا خطأ فاحش ، وذلك لأن الميم بقية " أمنا "وهو رأي الفراء ، فكيف يجوز الفراء ؟ وأجاب عن البيت بأن الرواية ليست كذلك ، بل الرواية : يسمعها لاهه الكبار . قلت : وهذا [لا يعارض الرواية الأخرى ، فإنه كما صحت هذه صحت ] تيك . ورد [ ص: 99 ] الزجاج مذهب الفراء بأنه لو كان الأصل : " يا لله أمنا "للفظ به منبهة على الأصل كما قالوا في : ويلمه : ويل لأمه .

                                                                                                                                                                                                                                      ومن أحكام هذه اللفظة أيضا أنها كثر دورها حتى حذفت منها الألف واللام في قولهم : " هم "أي : اللهم ، وقال الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                      1214 - لا هم إن عامر بن جهم     أحرم حجا في ثياب دسم



                                                                                                                                                                                                                                      وقال آخر :


                                                                                                                                                                                                                                      1215 - لا هم إن جرهما عبادكا     الناس طرف وهم بلادكا



                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذه الكلمة أبحاث كثيرة موضعها غير هذا .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : مالك الملك فيه أوجه ، أحدها : أنه بدل من " اللهم " . الثاني : أنه عطف بيان . الثالث : أنه منادى ثان ، حذفت منه حرف النداء ، أي : يا مالك الملك ، وهذا هو البدل في الحقيقة ، إذ البدل على نية تكرار العامل ، إلا أن الفرق هذا ليس بتابع . الرابع : أنه نعت لـ " اللهم "على الموضع فلذلك نصب ، وهذا ليس مذهب سيبويه ، فإن سيبويه لا يجيز نعت هذه اللفظة لوجود الميم في آخرها ، لأنها أخرجتها عن نظائرها من الأسماء ، وأجاز المبرد ذلك ، واختاره الزجاج قالا : لأن الميم بدل من " يا " [ ص: 100 ] والمنادى مع " يا "لا يمتنع وصفه فكذا مع ما هو عوض منها ، وأيضا فإن الاسم لم يتغير عن حكمه ، ألا ترى إلى بقائه مبنيا على الضم كما كان مبنيا مع " يا " .

                                                                                                                                                                                                                                      وانتصر الفارسي [ لسيبويه ] بأنه ليس في الأسماء الموصوفة شيء على حد "اللهم " فإذا خالف ما عليه الأسماء الموصوفة ودخل في حيز ما لا يوصف من الأصوات وجب ألا يوصف ، والأسماء المناداة المفردة المعرفة القياس ألا توصف كما ذهب إليه بعض الناس لأنها واقعة موقع ما لا يوصف . وكما أنه لما وقع موقع ما لا يعرب لم يعرب ، كذلك لما وقع موقع ما لا يوصف لم يوصف . فأما قوله :


                                                                                                                                                                                                                                      1216 - يا حكم الوارث عن عبد الملك      ... ... ... ...



                                                                                                                                                                                                                                      وقوله :


                                                                                                                                                                                                                                      1217 - يا حكم بن المنذر بن الجارود     سرادق المجد عليك ممدود



                                                                                                                                                                                                                                      و [قوله ] :


                                                                                                                                                                                                                                      1218 - ... ... ... ...     يا عمر الجوادا



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 101 ] فإن الأول على "أنت " والثاني على نداء ثان ، والثالث على إضمار "أعني " ، فلما كان هذا الاسم الأصل فيه ألا يوصف لما ذكرنا كان "اللهم " أولى ألا يوصف ، لأنه قبل ضم الميم إليه واقع موقع ما لا يوصف ، فلما ضمت إليه الميم صيغ معها صياغة مخصوصة ، وصار حكمه حكم الأصوات ، وحكم الأصوات ألا توصف نحو : "غاق " وهذا مع ما ضم إليه من الميم بمنزلة صوت مضموم إلى صوت نحو : "حيهل " فحقه ألا يوصف كما لا يوصف "حيهل " . انتهى ما انتصر به أبو علي لسيبويه وإن كان لا ينتهض مانعا .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : تؤتي هذه الجملة وما عطف عليها يجوز أن تكون مستأنفة مبينة لقوله : مالك الملك ويجوز أن تكون حالا من المنادى ، وفي انتصاب الحال عن المنادى خلاف ، الصحيح جوازه ، لأنه مفعول به ، والحال كما تكون لبيان هيئة الفاعل تكون لبيان هيئة المفعول ، ولذلك أعرب الحذاق قول النابغة :


                                                                                                                                                                                                                                      1219 - يا دار مية بالعلياء فالسند     أقوت وطال عليها سالف الأبد



                                                                                                                                                                                                                                      إن "بالعلياء " حال من "دار مية " ، وكذلك "أقوت " .

                                                                                                                                                                                                                                      والثالث من وجوه " تؤتي " أن يكون خبر مبتدأ مضمر أي : أنت تؤتي ، فتكون الجملة اسمية ، وحينئذ يجوز أن تكون مستأنفة وأن تكون حالية .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : تشاء أي : تشاء إيتاءه ، وتشاء انتزاعه ، فحذف المفعول بعد المشيئة للعلم به .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 102 ] قوله : بيدك الخير [قيل : في الكلام حذف معطوف تقديره : والشر ، فحذف كقوله ] : تقيكم الحر أي : والبرد ، وكقوله :


                                                                                                                                                                                                                                      1220 - كأن الحصا من خلفها وأمامها     إذا نجلته رجلها خذف أعسرا



                                                                                                                                                                                                                                      أي : ويدها .

                                                                                                                                                                                                                                      وقال الزمخشري : "فإن قلت : كيف قال : " بيدك الخير "فذكر الخير دون الشر ؟ قلت : لأن الكلام إنما وقع في الخير الذي يسوقه الله إلى المؤمنين ، وهو الذي أنكرته الكفرة ، فقال : بيدك الخير تؤتيه أولياءك على رغم من أعدائك " انتهى . وهذا جواب حسن جدا ، ثم ذكر هو كلاما آخر يوافق مذهبه لا حاجة لنا به ، وقيل : هذا من آداب القرآن حيث لم يصرح إلا بما هو محبوب لخلقه ، ونحو منه قوله : "والشر ليس إليك " وقوله : وإذا مرضت فهو يشفين .

                                                                                                                                                                                                                                      والنزع : الجذب ، يقال : نزعه ينزعه نزعا إذا جذبه عنه ، ويعبر به عن الميل ، ومنه : "نزعت نفسه إلى كذا " كأن جاذبا جذبها ، ويعبر به عن الإزالة ، "نزع الله عنك الشر " أي : أزاله ، ينزع عنهما لباسهما أي : أزاله ، وكهذه الآية فإن المعنى : ويزيل الملك .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية