الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
غزوة مؤتة

وهي بأدنى البلقاء من أرض الشام في جمادى الأولى سنة ثمان

وكان سببها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث الحارث بن عمير الأزدي، أحد بني لهب بكتابه إلى الشام، إلى ملك الروم، وقيل إلى ملك بصرى، فعرض له شرحبيل بن عمرو الغساني، فأوثقه رباطا ثم قدمه فضرب عنقه صبرا، ولم يقتل لرسول الله صلى الله عليه وسلم رسول غيره، فاشتد ذلك عليه حين بلغه الخبر عنه.

قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن جعفر بن الزبير، عن عروة بن الزبير، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى مؤتة، في جمادى الأولى من سنة ثمان، وأمر عليهم زيد بن حارثة، وقال: إن أصيب زيد ، فجعفر بن أبي طالب على الناس، فإن أصيب جعفر ، فعبد الله بن رواحة على الناس، فتجهز الناس، ثم تهيؤوا للخروج، وهم ثلاثة آلاف، فلما حضر خروجهم، ودع الناس أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلموا عليهم. فلما ودع عبد الله بن رواحة بكى، فقيل: ما يبكيك؟ فقال: أما والله ما بي حب للدنيا ولا صبابة بكم، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ آية من كتاب الله يذكر فيها النار: ( وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا ) . فلست أدري كيف لي بالصدر بعد الورود. فقال المسلمون: صحبكم الله ودفع عنكم وردكم إلينا صالحين، فقال عبد الله بن رواحة:


لكنني أسأل الرحمن مغفرة وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا     أو طعنة بيدي حران مجهزة
بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا     حتى يقال إذا مروا على جدثي
أرشده الله من غاز وقد رشدا

ثم مضوا، حتى نزلوا معان من أرض الشام، فبلغ الناس أن هرقل قد نزل مآب من أرض البلقاء، في مائة ألف من الروم، وانضم إليهم من لخم وجذام والقين وبهراء وبلي مائة ألف [ ص: 209 ] منهم، عليهم رجل من بلي يقال له مالك بن رافلة. فلما بلغ ذلك المسلمين أقاموا على معان ليلتين، ينظرون في أمرهم، وقالوا نكتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنخبره بعدد عدونا، فإما أن يمدنا بالرجال، وإما أن يأمرنا بأمره فنمضي له. قال: فشجع الناس عبد الله بن رواحة، وقال: يا قوم والله إن الذي تكرهون للتي خرجتم لها تطلبون الشهادة، وما نقاتل بعدد ولا قوة ولا كثرة، وما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين إما ظهور وإما شهادة .

قال ابن إسحاق: ثم مضى الناس، فحدثني عبد الله بن أبي بكر، أنه حدث عن زيد بن أرقم، قال: كنت يتيما لعبد الله بن رواحة ، فخرج في سفره ذلك مردفي على حقيبة رحله، فوالله إنه ليسير ليلة إذ سمعته وهو ينشد، ويقول:


إذا أدنيتني وحملت رحلي     مسيرة أربع بعد الحساء
فشأنك فانعمي وخلاك ذم     ولا أرجع إلى أهلي ورائي
وجاء المسلمون وغادروني     بأرض الشام منتهي الثواء

في أبيات، فلما سمعتهن بكيت، فخفقني بالدرة، وقال: ما عليك يا لكع أن يرزقني الله شهادة، وترجع بين شعبتي الرحل. قال: ثم قال عبد الله بن رواحة في سفره ذلك، وهو يرتجز، ويقول:


يا زيد زيد اليعملات الذبل     تطاول الليل هديت فانزل

ثم مضى الناس حتى إذا كانوا بتخوم البلقاء، لقيتهم جموع هرقل من الروم والعرب بقرية من قرى البلقاء يقال لها مشارف، ثم دنا العدو، وانحاز المسلمون إلى قرية يقال لها مؤتة، فالتقى الناس عندها، فتعبأ لهم المسلمون، فجعلوا على ميمنتهم رجلا من بني عذرة، يقال له: قطبة بن قتادة، وعلى ميسرتهم رجل من الأنصار يقال له: عباية بن مالك، ويقال: عبادة. ثم التقى الناس فاقتتلوا، فقاتل زيد بن حارثة براية رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شاط في رماح القوم ، ثم أخذها جعفر; فقاتل بها حتى إذا ألحمه القتال، اقتحم عن فرس له [ ص: 210 ] شقراء، فعقرها، ثم قاتل القوم حتى قتل، فكان جعفر أول من عرقب فرسا في الإسلام وقاتل. وروي أنه أخذ اللواء بيمينه، فقاتل به حتى قطعت يمينه، فأخذ الراية بيساره فقطعت يساره، فاحتضن الراية وقاتل حتى قتل رحمه الله، وسنه ثلاث وثلاثون، أو أربع وثلاثون سنة . ثم أخذها عبد الله بن رواحة، وتقدم بها وهو على فرسه، فجعل يستنزل نفسه ويتردد بعض التردد، ثم نزل، فلما نزل أتاه ابن عم له بعرق من لحم، فقال: شد بها صلبك. فإنك قد لقيت أيامك هذه ما لقيت، فأخذه من يده، فانتهش منه نهشة ، ثم سمع الحطمة في ناحية الناس، فقال: وأنت في الدنيا، ثم ألقاه من يده، ثم أخذ سيفه، فقاتل حتى قتل. ثم أخذ الراية ثابت بن أقرم أخو بني العجلان، فقال: يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم، قالوا: أنت. قال: ما أنا بفاعل. فاصطلح الناس على خالد بن الوليد. فلما أخذ الراية دافع القوم وحاشى بهم ، ثم انحاز وانحيز عنه، حتى انصرف بالناس.


وقد حكى ابن سعد وغيره أن الهزيمة كانت على المسلمين، وحكى أيضا أن الهزيمة كانت على الروم. وكذا في صحيح البخاري، والمختار من ذلك ما ذكره ابن إسحاق من انحياز كل فئة عن الأخرى من غير هزيمة، وقد وقع ذلك في شعر لقيس بن المسحر اليعمري كذلك.

وأطلع الله رسوله صلى الله عليه وسلم على ذلك من يومه فأخبر به عليه الصلاة والسلام أصحابه رضي الله عنهم بالمدينة قبل ورود الخبر بأيام. وقال: "لقد رفعوا إلي في الجنة فيما يرى النائم على سرر من ذهب، فرأيت في سرير عبد الله بن رواحة ازورارا عن سريري صاحبيه، فقلت: عم هذا؟! فقيل لي: مضيا، وتردد عبد الله بعض التردد ثم مضى" .

[ ص: 211 ] قال أبو عمر: وذكر عبد الرزاق ، عن ابن عيينة ، عن ابن جدعان، عن ابن المسيب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مثل لي جعفر ، وزيد ، وابن رواحة في خيمة من در، كل واحد منهم على سريره، فرأيت زيدا ، وابن رواحة في أعناقهما صدود، ورأيت جعفرا مستقيما ليس فيه صدود. قال: فسألت - أو: قيل لي - إنهما حين غشيهما الموت أعرضا، أو كأنهما صدا بوجوههما، وأما جعفر فإنه لم يفعل.

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في جعفر: إن الله أبدله بيديه جناحين يطير بهما في الجنة حيث شاء.
قال أبو عمر: وروينا عن ابن عمر، أنه قال: وجدنا ما بين صدر جعفر ومنكبيه وما أقبل منه تسعين جراحة، ما بين ضربة بالسيف وطعنة بالرمح. وقد روي: أربع وخمسون، والأول أثبت.

وقال موسى بن عقبة: قدم يعلى بن منية على رسول الله صلى الله عليه وسلم بخبر أهل مؤتة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن شئت فأخبرني، وإن شئت أخبرتك. قال: فأخبرني يا رسول الله. فأخبره صلى الله عليه وسلم خبرهم كله، ووصفه له. فقال: والذي بعثك بالحق ما تركت من حديثهم حرفا واحدا لم تذكره، وإن أمرهم لكما ذكرت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله رفع لي الأرض حتى رأيت معتركهم".

التالي السابق


الخدمات العلمية