الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى : فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه الآية ، اعلم أن لفظة من في هذه الآية الكريمة محتملة ، لأن تكون للتبعيض ، فيتعين في التيمم التراب الذي له غبار يعلق باليد ; ويحتمل أن تكون لابتداء الغاية ، أي مبدأ ذلك المسح كائن من الصعيد الطيب ، فلا يتعين ماله غبار ، وبالأول قال الشافعي ، [ ص: 354 ] وأحمد ، وبالثاني قال مالك ، وأبو حنيفة رحمهم الله تعالى جميعا .

                                                                                                                                                                                                                                      فإذا علمت ذلك ، فاعلم أن في هذه الآية الكريمة إشارة إلى هذا القول الأخير ، وذلك في قوله تعالى : ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج [ 5 \ 6 ] ، فقوله : من حرج نكرة في سياق النفي زيدت قبلها من ، والنكرة إذا كانت كذلك ، فهي نص في العموم ، كما تقرر في الأصول ، قال في " مراقي السعود " عاطفا على صيغ العموم : [ الرجز ]


                                                                                                                                                                                                                                      وفي سياق النفي منها يذكر إذا بني أو زيد من منكر



                                                                                                                                                                                                                                      فالآية تدل على عموم النفي في كل أنواع الحرج ، والمناسب لذلك كون من لابتداء الغاية ، لأن كثيرا من البلاد ليس فيه إلا الرمال أو الجبال ، فالتكليف بخصوص ما فيه غبار يعلق باليد ، لا يخلو من حرج في الجملة .

                                                                                                                                                                                                                                      ويؤيد هذا ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي ، نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة ، فليصل " ، وفي لفظ : " فعنده مسجده وطهوره " الحديث .

                                                                                                                                                                                                                                      فهذا نص صحيح صريح في أن من أدركته الصلاة في محل ليس فيه إلا الجبال أو الرمال أن ذلك الصعيد الطيب الذي هو الحجارة ، أو الرمل طهور له ومسجد ; وبه تعلم أن ما ذكره الزمخشري من تعين كون من للتبعيض غير صحيح ; فإن قيل : ورد في الصحيح ما يدل على تعين التراب الذي له غبار يعلق باليد ، دون غيره من أنواع الصعيد ، فقد أخرج مسلم في صحيحه من حديث حذيفة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " فضلنا على الناس بثلاث : جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة ، وجعلت لنا الأرض كلها مسجدا ، وجعلت تربتها لنا طهورا ، إذا لم نجد الماء " الحديث ، فتخصيص التراب بالطهورية في مقام الامتنان يفهم منه أن غيره من الصعيد ليس كذلك ، فالجواب من ثلاثة أوجه :

                                                                                                                                                                                                                                      الأول : أن كون الأمر مذكورا في معرض الامتنان ، مما يمنع فيه اعتبار مفهوم المخالفة ، كما تقرر في الأصول ، قال في " مراقي السعود " في موانع اعتبار مفهوم المخالفة : [ الرجز ]

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 355 ]

                                                                                                                                                                                                                                      أو امتنان أو وفاق الواقع     والجهل والتأكيد عند السامع



                                                                                                                                                                                                                                      ولذا أجمع العلماء على جواز أكل القديد من الحوت مع أن الله خص اللحم الطري منه في قوله : وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا [ 16 \ 14 ] ; لأنه ذكر اللحم الطري في معرض الامتنان ، فلا مفهوم مخالفة له ، فيجوز أكل القديد مما في البحر .

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني : أن مفهوم التربة مفهوم لقب ، وهو لا يعتبر عند جماهير العلماء ، وهو الحق كما هو معلوم في الأصول .

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث : أن التربة فرد من أفراد الصعيد ; وذكر بعض أفراد العام بحكم العام لا يكون مخصصا له عند الجمهور ، سواء ذكرا في نص واحد كقوله تعالى : حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى [ 2 \ 238 ] ، أو ذكرا في نصين كحديث : " أيما إهاب دبغ فقد طهر " ، عند أحمد ، ومسلم ، وابن ماجه ، والترمذي ، وغيرهم ، مع حديث : " هلا انتفعتم بجلدها " ، يعني شاة ميتة عند الشيخين ، كلاهما من حديث ابن عباس ، فذكر الصلاة الوسطى في الأول ، وجلد الشاة في الأخير لا يقتضي أن غيرهما من الصلوات في الأول ، ومن الجلود في الثاني ليس كذلك ، قال في " مراقي السعود " عاطفا على ما لا يخصص به العموم : [ الرجز ]


                                                                                                                                                                                                                                      وذكر ما وافقه من مفرد     ومذهب الراوي على المعتمد



                                                                                                                                                                                                                                      ولم يخالف في عدم التخصيص بذكر بعض أفراد العام بحكم العام ، إلا أبو ثور محتجا بأنه لا فائدة لذكره إلا التخصيص .

                                                                                                                                                                                                                                      وأجيب من قبل الجمهور بأن مفهوم اللقب ليس بحجة ، وفائدة ذكر البعض نفي احتمال إخراجه من العام ، والصعيد في اللغة : وجه الأرض ، كان عليه تراب ، أو لم يكن ، قاله الخليل ، وابن الأعرابي ، والزجاج .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الزجاج : لا أعلم فيه خلافا بين أهل اللغة ، قال الله تعالى : وإنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا [ 18 \ 8 ] ، أي أرضا غليظة لا تنبت شيئا ، وقال تعالى : فتصبح صعيدا زلقا [ 18 \ 40 ] ، ومنه قول ذي الرمة : [ البسيط ]


                                                                                                                                                                                                                                      كأنه بالضحى ترمي الصعيد به     دبابة في عظام الرأس خرطوم



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 356 ] وإنما سمي صعيدا ; لأنه نهاية ما يصعد إليه من الأرض ، وجمع الصعيد صعدات على غير قياس ، ومنه حديث : " إياكم والجلوس في الصعدات " ، قاله القرطبي وغيره عنه .

                                                                                                                                                                                                                                      واختلف العلماء فيه من أجل تقييده بالطيب ، فقالت طائفة : " الطيب " هو الطاهر ، فيجوز التيمم بوجه الأرض كله ، ترابا كان أو رملا ، أو حجارة ، أو معدنا ، أو سبخة ، إذا كان ذلك طاهرا ، وهذا مذهب مالك ، وأبي حنيفة ، والثوري ، وغيرهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقالت طائفة : الطيب : الحلال ، فلا يجوز التيمم بتراب مغصوب . وقال الشافعي ، وأبو يوسف : الصعيد الطيب : التراب المنبت ، بدليل قوله تعالى : والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه الآية [ 7 \ 58 ]

                                                                                                                                                                                                                                      فإذا علمت هذا ، فاعلم أن المسألة لها واسطة وطرفان : طرف أجمع جميع المسلمين على جواز التيمم به ، وهو التراب المنبت الطاهر الذي هو غير منقول ، ولا مغصوب ; وطرف أجمع جميع المسلمين على منع التيمم به ، وهو الذهب والفضة الخالصان ، والياقوت والزمرد ، والأطعمة كالخبز واللحم وغيرهما ، والنجاسات وغير هذا هو الواسطة التي اختلف فيها العلماء ، فمن ذلك المعادن .

                                                                                                                                                                                                                                      فبعضهم يجيز التيمم عليها كمالك ، وبعضهم يمنعه كالشافعي ومن ذلك الحشيش ، فقد روى ابن خويز منداد عن مالك أنه يجيز التيمم على الحشيش إذا كان دون الأرض ، ومشهور مذهب مالك المنع ، ومن ذلك التيمم على الثلج ، فروي عن مالك في " المدونة " ، و " المبسوط جوازه " ، قيل : مطلقا ، وقيل : عند عدم الصعيد ، وفي غيرهما منعه .

                                                                                                                                                                                                                                      واختلف عنه في التيمم على العود ، فالجمهور على المنع ، وفي " مختصر الوقار " أنه جائز ، وقيل : يجوز في العود المتصل بالأرض دون المنفصل عنها ، وذكر الثعلبي أن مالكا قال : لو ضرب بيده على شجرة ، ثم مسح بها أجزأه ، قال : وقال الأوزاعي ، والثوري : يجوز بالأرض ، وكل ما عليها من الشجر والحجر ، والمدر وغيرها حتى قالا : لو ضرب بيده على الجمد والثلج أجزأه .

                                                                                                                                                                                                                                      وذكر الثعلبي عن أبي حنيفة أنه يجيزه بالكحل ، والزرنيخ ، والنورة ، والجص ، والجوهر المسحوق ، ويمنعه بسحالة الذهب ، والفضة ، والنحاس ، والرصاص ، لأن [ ص: 357 ] ذلك ليس من جنس الأرض .

                                                                                                                                                                                                                                      وذكر النقاش عن ابن علية ، وابن كيسان أنهما أجازاه بالمسك ، والزعفران ، وأبطل ابن عطية هذا القول ، ومنعه إسحاق بن راهويه بالسباخ ، وعن ابن عباس نحوه ، وعنه فيمن أدركه التيمم ، وهو في طين أنه يطلي به بعض جسده ، فإذا جف تيمم به ، قاله القرطبي .

                                                                                                                                                                                                                                      وأما التراب المنقول في طبق أو غيره ، فالتيمم به جائز في مشهور مذهب مالك ، وهو قول جمهور المالكية ، ومذهب الشافعي ، وأصحابه ، وعن بعض المالكية ، وجماعة من العلماء منعه .

                                                                                                                                                                                                                                      وما طبخ كالجص ، والآجر ففيه أيضا خلاف عن المالكية ، والمنع أشهر .

                                                                                                                                                                                                                                      واختلفوا أيضا في التيمم على الجدار ، فقيل : جائز مطلقا ، وقيل : ممنوع مطلقا ، وقيل بجوازه للمريض دون غيره ، وحديث أبي جهيم الآتي يدل على الجواز مطلقا .

                                                                                                                                                                                                                                      والظاهر أن محله فيما إذا كان ظاهر الجدار من أنواع الصعيد ، ومشهور مذهب مالك جواز التيمم على المعادن غير الذهب ، والفضة ما لم تنقل ، وجوازه على الملح غير المصنوع ، ومنعه بالأشجار ، والعيدان ونحو ذلك ، وأجازه أحمد ، والشافعي ، والثوري على اللبد ، والوسائد ; ونحو ذلك إذا كان عليه غبار .

                                                                                                                                                                                                                                      والتيمم في اللغة : القصد ، تيممت الشيء قصدته ، وتيممت الصعيد تعمدته ، وأنشد الخليل قول عامر بن مالك ، ملاعب الأسنة : [ البسيط ]


                                                                                                                                                                                                                                      يممته الرمح شزرا ثم قلت له     هذي البسالة لا لعب الزحاليق


                                                                                                                                                                                                                                      ومنه قول امرئ القيس : [ الطويل ]


                                                                                                                                                                                                                                      تيممت العين التي عند ضارج     يفيء عليها الظل عرمضها طامي



                                                                                                                                                                                                                                      وقول أعشى باهلة : [ المتقارب ]


                                                                                                                                                                                                                                      تيممت قيسا وكم دونه     من الأرض من مهمة ذي شزن



                                                                                                                                                                                                                                      وقول حميد بن ثور : [ الطويل ]


                                                                                                                                                                                                                                      سل الربع أنى يممت أم طارق     وهل عادة للربع أن يتكلما



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 358 ] والتيمم في الشرع : القصد إلى الصعيد الطيب لمسح الوجه ، واليدين منه بنية استباحة الصلاة عند عدم الماء ، أو العجز عن استعماله ، وكون التيمم بمعنى القصد يدل على اشتراط النية في التيمم ، وهو الحق .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية