الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا ( 24 ) )

يقول تعالى ذكره : وكن لهما ذليلا رحمة منك بهما تطيعهما فيما أمراك به مما لم يكن لله معصية ، ولا تخالفهما فيما أحبا .

وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عبد الرحمن ، قال : ثنا سفيان ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، في قوله : ( واخفض لهما جناح الذل من الرحمة ) قال : لا تمتنع من شيء يحبانه .

حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا الأشجعي ، قال : سمعت هشام بن عروة ، عن أبيه ، في قوله ( واخفض لهما جناح الذل من الرحمة ) قال : هو أن تلين لهما حتى لا تمتنع من شيء أحباه .

حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم ، قال : ثنا أيوب بن سويد ، قال : ثنا الثوري ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، في قوله ( واخفض لهما جناح الذل من الرحمة ) قال : لا تمتنع من شيء أحباه .

حدثني يعقوب ، قال : ثنا ابن علية ، عن عبد الله بن المختار ، عن هشام بن عروة ، عن أبيه ، في قوله ( واخفض لهما جناح الذل من الرحمة ) قال : هو أن لا تمتنع من شيء يريدانه . [ ص: 419 ]

حدثنا أبو كريب ، قال : ثنا المقرئ أبو عبد الرحمن ، عن حرملة بن عمران ، عن أبي الهداج ، قال : قلت لسعيد بن المسيب : ما قوله ( واخفض لهما جناح الذل من الرحمة ) قال : ألم تر إلى قول العبد المذنب للسيد الفظ الغليظ . والذل بضم الذال والذلة مصدران من الذليل ، وذلك أن يتذلل ، وليس بذليل في الخلقة من قول القائل : قد ذللت لك أذل ذلة وذلا وذلك نظير القل والقلة ، إذا أسقطت الهاء ضمت الذال من الذل ، والقاف من القل ، وإذا أثبتت الهاء كسرت الذال من الذلة ، والقاف من القلة ، لما قال الأعشى :


وما كنت قلا قبل ذلك أزيبا



يريد : القلة ، وأما الذل بكسر الذال وإسقاط الهاء فإنه مصدر من الذلول من قولهم : دابة ذلول : بينة الذل ، وذلك إذا كانت لينة غير صعبة .

ومنه قول الله جل ثناؤه ( هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا ) يجمع ذلك ذللا كما قال جل ثناؤه ( فاسلكي سبل ربك ذللا ) . وكان مجاهد يتأول ذلك أنه لا يتوعر عليها مكان سلكته .

واختلفت القراء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قراء الحجاز والعراق والشام ( واخفض لهما جناح الذل ) بضم الذال على أنه مصدر من الذليل . وقرأ ذلك سعيد بن جبير وعاصم الجحدري : ( جناح الذل ) بكسر الذال .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا بهز بن أسد ، قال : ثنا أبو عوانة ، عن أبي [ ص: 420 ] بشر ، عن سعيد بن جبير أنه قرأ ( واخفض لهما جناح الذل من الرحمة ) قال : كن لهما ذليلا ولا تكن لهما ذلولا .

حدثنا نصر بن علي ، قال : أخبرني عمر بن شقيق ، قال : سمعت عاصما الجحدري يقرأ ( واخفض لهما جناح الذل من الرحمة ) قال : كن لهما ذليلا ولا تكن لهما ذلولا .

حدثنا ابن بشار ، قال : ثنا عمر بن شقيق ، عن عاصم ، مثله .

قال أبو جعفر : وعلى هذا التأويل الذي تأوله عاصم كان ينبغي أن تكون قراءته بضم الذال لا بكسرها وبكسرها .

حدثنا نصر وابن بشار ، وحدثت عن الفراء ، قال : ثني هشيم ، عن أبي بشر جعفر بن إياس . عن سعيد بن جبير ، أنه قرأ ( واخفض لهما جناح الذل ) قال الفراء : وأخبرني الحكم بن ظهير ، عن عاصم بن أبى النجود ، أنه قرأها الذل أيضا ، فسألت أبا بكر فقال : الذل قرأها عاصم .

وأما قوله ( وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا ) فإنه يقول : ادع الله لوالديك بالرحمة ، وقل رب ارحمهما ، وتعطف عليهما بمغفرتك ورحمتك ، كما تعطفا علي في صغري ، فرحماني وربياني صغيرا ، حتى استقللت بنفسي ، واستغنيت عنهما .

كما حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ( واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا ) هكذا علمتم ، وبهذا أمرتم ، خذوا تعليم الله وأدبه ، ذكر لنا " أن نبي الله صلى الله عليه وسلم خرج ذات يوم وهو ماد يديه رافع صوته يقول : من أدرك والديه أو أحدهما ثم دخل النار بعد ذلك فأبعده الله وأسحقه " . ولكن كانوا يرون أنه من بر والديه ، وكان فيه أدنى تقى ، فإن ذلك مبلغه جسيم الخير ، وقال جماعة من أهل العلم : إن قول الله جل ثناؤه ( وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا ) منسوخ بقوله ( ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ) .

ذكر من قال ذلك :

حدثني علي بن داود ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : [ ص: 421 ] ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله ( وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيرا ) ثم أنزل الله عز وجل بعد هذا ( ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى ) .

حدثنا ابن حميد ، قال : ثنا يحيى بن واضح ، قال : ثنا الحسين ، عن يزيد ، عن عكرمة ، قال في سورة بني إسرائيل ( إما يبلغان عندك الكبر أحدهما أو كلاهما ) . . . . إلى قوله ( وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ) فنسختها الآية التي في براءة ( ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى ) . . . الآية .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : قال ابن جريج ، قال ابن عباس ( وقل رب ارحمهما ) . . . . الآية ، قال : نسختها الآية التي في براءة ( ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ) . . . الآية .

وقد تحتمل هذه الآية أن تكون وإن كان ظاهرها عاما في كل الآباء بغير معنى النسخ ، بأن يكون تأويلها على الخصوص ، فيكون معنى الكلام : وقل رب ارحمهما إذا كانا مؤمنين ، كما ربياني صغيرا ، فتكون مرادا بها الخصوص على ما قلنا غير منسوخ منها شيء . وعنى بقوله ربياني : نمياني .

التالي السابق


الخدمات العلمية