الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                            صفحة جزء
                                                                            1 - كتاب الإيمان.

                                                                            قال الله سبحانه وتعالى: ( هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون ) .

                                                                            وقال الله عز وجل: ( إن الدين عند الله الإسلام ) ، ( ورضيت لكم الإسلام دينا ) ، ( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ) .

                                                                            2 - أخبرنا أبو طاهر محمد بن علي بن محمد بن علي بن بويه الزراد البخاري، أنا أبو القاسم علي بن أحمد الخزاعي، ثنا أبو سعيد الهيثم بن كليب بن سريج بن معقل الشاشي، نا أبو أحمد عيسى بن أحمد العسقلاني، أنا يزيد بن هارون، أنا كهمس بن الحسن، عن عبد الله بن بريدة، عن يحيى بن يعمر، قال: كان أول من تكلم في القدر، يعني بالبصرة، معبد الجهني، [ ص: 8 ] فخرجت أنا وحميد بن عبد الرحمن نريد مكة، فقلنا لو لقينا أحدا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألناه عما يقول؟ فلقينا عبد الله بن عمر، فاكتنفته أنا وصاحبي، أحدنا عن يمينه، والآخر عن شماله، فعلمت أنه سيكل الكلام إلي، فقلت: أبا عبد الرحمن، إنه قد ظهر قبلنا ناس يتقفرون هذا العلم، ويطلبونه، يزعمون أن لا قدر، إنما الأمر أنف؟ قال: فإذا لقيت أولئك، فأخبرهم أني منهم بريء، وأنهم مني برآء، والذي نفسي بيده لو أن لأحدهم مثل أحد ذهبا، فأنفقه في سبيل الله، ما قبل الله منه شيئا حتى يؤمن بالقدر خيره، وشره، ثم قال: حدثنا عمر بن الخطاب، رضي الله عنهما، قال: بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ أقبل رجل شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، ما يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، فأقبل حتى جلس بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وركبته تمس ركبته، قال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن [ ص: 9 ] استطعت إليه سبيلا ".

                                                                            فقال: صدقت.

                                                                            فتعجبنا من سؤاله وتصديقه، ثم قال: فما الإيمان؟ قال: "أن تؤمن بالله وحده، وملائكته، ورسله، وبالبعث بعد الموت، والجنة والنار، وبالقدر خيره وشره".

                                                                            فقال: صدقت.

                                                                            ثم قال: فما الإحسان؟ قال: " أن تعمل لله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.

                                                                            قال: صدقت.

                                                                            ثم قال: فأخبرني عن الساعة.

                                                                            فقال: " ما المسئول عنها بأعلم بها من السائل.

                                                                            قال: صدقت.

                                                                            قال: فأخبرني عن أمارتها.

                                                                            قال: "أن تلد الأمة ربها، وأن ترى العراة الحفاة رعاء الشاء يتطاولون في بنيان المدر".

                                                                            قال: صدقت.

                                                                            ثم انطلق، فلما كان بعد ثالثة، قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عمر، هل تدري من الرجل؟"، قال: قلت: الله ورسوله أعلم.

                                                                            قال: "ذاك جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم، وما أتاني في صورة إلا عرفته فيها، إلا في صورته هذه".


                                                                            هذا حديث صحيح، أخرجه مسلم، عن عبيد الله بن معاذ العنبري، عن [ ص: 10 ] أبيه، عن كهمس .

                                                                            واتفقا على إخراجه من رواية أبي هريرة .

                                                                            وعمر بن الخطاب بن نفيل أبو حفص القرشي العدوي، قتل سنة ثلاث وعشرين، وهو ابن ثلاث وستين سنة في ذي الحجة، قال ابن شهاب : ولي عشر سنين حجها كلها.

                                                                            قوله: "يتقفرون العلم" أي: يتبعون أثره ويطلبونه، والتقفر: تتبع أثر الشيء.

                                                                            وقوله: "إنما الأمر أنف"، يريد: مستأنف لم يتقدم فيه قدر، ولا مشيئة، يقال: روضة أنف: إذا لم ترع، وأنف الشيء: أوله.

                                                                            وقوله: "فأخبرني عن أمارتها" أي: علامتها، يقال: أمار ما بيني وبينك كذا، وأمارة ما بيني وبينك، بالهاء وغير الهاء، وقيل: الأمار: جمع الأمارة.

                                                                            قال الشيخ الإمام رحمه الله: جعل النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الإسلام اسما لما ظهر من الأعمال، وجعل الإيمان اسما لما بطن من الاعتقاد، وليس ذلك، لأن الأعمال ليست من الإيمان، أو التصديق بالقلب ليس من الإسلام، بل ذلك تفصيل لجملة هي كلها شيء واحد، وجماعها الدين، ولذلك قال: "ذاك جبريل أتاكم يعلمكم أمر دينكم".

                                                                            والتصديق والعمل يتناولهما اسم الإيمان والإسلام جميعا، يدل عليه قوله سبحانه وتعالى: ( إن الدين عند الله الإسلام ) ، ( ورضيت لكم الإسلام دينا ) ، [ ص: 11 ] ( ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ) .

                                                                            فأخبر أن الدين الذي رضيه ويقبله من عباده هو الإسلام، ولن يكون الدين في محل القبول والرضا إلا بانضمام التصديق إلى العمل.

                                                                            قال أبو سليمان الخطابي : المسلم قد يكون مؤمنا في بعض الأحوال، وقد لا يكون مؤمنا في بعضها، والمؤمن مسلم في جميع الأحوال، لأن أصل الإسلام: الاستسلام والانقياد، وأصل الإيمان: التصديق، وقد يكون المرء مستسلما في الظاهر غير منقاد في الباطن، ولا يكون صادق الباطن، غير منقاد في الظاهر، فإذا كل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنا.

                                                                            وقوله: "ما الإحسان؟" فإن معنى الإحسان ههنا: الإخلاص، وهو شرط في صحة الإيمان والإسلام معا.

                                                                            وقوله: "أن تلد الأمة ربها" معناه: أن يتسع الإسلام، ويكثر السبي، ويتخذ الناس السراري، ويكثر منهن الأولاد، فيكون ابن الرجل من أمته في معنى السيد لأمه، إذ كانت مملوكة لأبيه، وملك الأب راجع إلى الولد.

                                                                            وقوله: "وأن ترى العراة الحفاة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان"، قال أبو سليمان الخطابي : يريد العرب الذين هم أرباب الإبل ورعاتها، أي: يتسع الإسلام، ويفتتح هؤلاء البلاد، ويسكنونها، ويتطاولون في البنيان بعد أن كانوا أهل النجع لا تستقر بهم دار.

                                                                            وقيل: هذا كما جاء في حديث آخر في أشراط الساعة "ويتكلم فيهم الرويبضة، وهو الرجل التافه ينطق في أمور [ ص: 12 ] العامة"، وقيل: الرويبضة: تصغير الرابضة، وهو راعي الربيض، والربيض: الغنم، والهاء للمبالغة.

                                                                            التالي السابق


                                                                            الخدمات العلمية