الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 27 ] سورة الفاتحة

                          ( 1 )

                          هذه السورة مكية وآياتها سبع . والفرق بين السور المكية والمدنية : هو أن المكية أكثر إيجازا ؛ لأن المخاطبين بها هم أبلغ العرب وأفصحهم ، وعلى الإيجاز مدار البلاغة عندهم ، ثم إن معظمها تنبيهات وزواجر وبيان لأصول الدين بالإجمال . وقد قلت في مقدمة الطبعة الثانية لمجلد المنار الأول في أسلوب السور المكية ما نصه :

                          إن أكثر السور المكية لا سيما المنزلة في أوائل البعثة قوارع تصخ الجنان ، وتصدع الوجدان ، وتفزع القلوب إلى استشعار الخوف ، وتدع العقول إلى إطالة الفكر في الخطبين الغائب والعتيد ، والخطرين القريب والبعيد ، وهما عذاب الدنيا بالإبادة والاستئصال ، أو الفتح الذاهب بالاستقلال ، وعذاب الآخرة وهو أشد وأقوى ، وأنكى وأخزى - بكل من هذا وذاك أنذرت السور المكية أولئك المخاطبين إذ أصروا على شركهم ، ولم يرجعوا بدعوة الإسلام عن ضلالهم وإفكهم ، ويأخذوا بتلك الأصول المجملة ، التي هي الحنيفية السمحة السهلة ، وليست بالشيء الذي ينكره العقل ، أو يستثقله الطبع ، وإنما ذلك تقليد الآباء والأجداد ، يصرف الناس عن سبيل الهدى والرشاد .

                          راجع تلك السور العزيزة ، ولا سيما قصار المفصل منها كـ ( الحاقة ما الحاقة ) ، و ( القارعة ما القارعة ) ، و ( إذا وقعت الواقعة ) ، و ( إذا الشمس كورت ) ، و ( إذا السماء انفطرت ) ، و ( إذا السماء انشقت ) ، و ( إذا زلزلت الأرض زلزالها ) ، ( والذاريات ذروا ) ، ( والمرسلات عرفا ) ، ( والنازعات غرقا ) .

                          تلك السور التي كانت بنذرها ، وفهم القوم لبلاغتها وعبرها ، وتفزعهم من سماع القرآن ، حتى يفروا من الداعي - صلى الله عليه وسلم - من مكان إلى مكان ( كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة ) ( 74 : 50 - 51 ) - ( ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون ) ( 11 : 5 ) ثم إلى السور المكية الطوال ، فلا نجدها تخرج في الأوامر والنواهي عن حد الإجمال ، كقوله - عز وجل - : (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا ) ( 17 : 23 - إلى - 37 منها ) وقوله بعد إباحة الزينة وإنكار تحريم الطيبات من الرزق ( قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون ) ( 7 : 33 )

                          [ ص: 28 ] وأما السور المدنية ففي أسلوبها شيء من الإسهاب ، ولا سيما في مخاطبة أهل الكتاب ، لأنهم أقل بلاغة وفهما من العرب الأصلاء ، ولا سيما قريش وما فيها من الكلام في أصول الدين أكثره محاجة لهم - لأهل الكتاب - ونعي عليهم ، وإثبات لتحريفهم ما نزل إليهم ، وابتداعهم فيه وإعراضهم عن هدايته ، ونسيانهم حظا مما ذكروا به ، ودعوة لهم إلى التوحيد الخالص توحيد الألوهية والربوبية ، وبيان لكون الإسلام الذي جاء به القرآن ، هو دين جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام .

                          وفي هذه السور المدنية أيضا بيان لما لا بد منه من الأحكام العملية في العبادات والمعاملات الشخصية والمدنية والسياسية والحربية ، ولأصول الحكومة الإسلامية والتشريع فيها ، كما تراه في طوال المفصل منها ، كالبقرة وآل عمران والنساء والمائدة .

                          وقد اختلف العلماء في المكي والمدني من السور . فقيل : المكي ما نزل في شأن أهل مكة ، وإن كان نزوله في أهل المدينة . والمدني غيره ، وقيل : المكي ما نزل بمكة ولو بعد الهجرة ، كالذي نزل في عام الفتح وفي حجة الوداع ، والصحيح الذي عليه الجمهور : أن المكي ما نزل قبل الهجرة ، والمدني ما نزل بعدها ، سواء نزل بالمدينة نفسها أو ضواحيها أو في مكة عام الفتح وعام حجة الوداع ، أو في غزوة من الغزوات . فالسور المكية : هي التي نزلت في أول الإسلام لأجل الدعوة إليه ، ولبيان أساس الدين وكلياته من الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين ، ومن ترك الشرور والمعاصي والمنكرات المعروفة للناس بعقولهم وفطرتهم ، وفعل الخيرات والمعروف بحسب الرأي والاجتهاد الموكول إلى القلوب والضمائر . والسور المدنية هي التي نزلت بعد الهجرة ، وكثرة المسلمين وتكون جماعتهم ، ببيان الأحكام التفصيلية كما قلنا آنفا ، وسترى ذلك مفصلا في القسمين تفصيلا .

                          والسورة : طائفة من القرآن مؤلفة من ثلاث آيات فأكثر ، لها اسم معروف بالتوقيف والرواية الثابتة بالأحاديث والآثار ، قيل : إن اسمها مشتق من السور الذي يحيط بالبلد .

                          وقيل : من السؤر المهموز ، ومعناه البقية ، وبقية كل شيء جزء منه فالمراد بها جزء معين من القرآن . وقيل : من التسور ، وهو العلو والارتفاع .

                          وقد رويت أسماء السور عن الصحابة مرفوعة وموقوفة ، لكنهم لم يكتبوها في مصاحفهم ، لأنهم لم يكتبوا فيها إلا ألفاظ التنزيل ، لئلا يتوهم أحد من الناس إذا هم زادوا شيئا - كأسماء السور أو لفظ " آمين " بعد الفاتحة - أنه من التنزيل .

                          هذا - ولفظ " الفاتحة " صفة ، مؤنث الفاتح . قال الأستاذ الإمام : سميت الفاتحة فاتحة ؛ لأنها أول القرآن في هذا الترتيب ( وتكلم عن لفظ الفاتحة وعن التاء فيه ) وتسمى أم الكتاب .

                          وقالوا : إن حديث النهي عن تسميتها هذا الاسم موضوع . ثم قال : يتكلمون عند الكلام [ ص: 29 ] عن السور على المكي والمدني ، وهو يفيد في معرفة الناسخ والمنسوخ ، وهي مكية خلافا لمجاهد ، فالإجماع على أن الصلاة كانت بالفاتحة لأول فرضيتها . ولا ريب أن ذلك كان في مكة . وقالوا : هي المراد بالسبع المثاني : ( ولقد آتيناك سبعا من المثاني والقرآن العظيم ) ( 15 : 87 ) وهو مكي بالنص . وقال بعضهم : إنها نزلت مرتين ، مرة بمكة عند فرضية الصلاة ، وأخرى بالمدينة حين حولت القبلة ، وكأن صاحب هذا القول أراد الجمع بين القولين . وليس بشيء . وقال كثيرون إنها أول سورة أنزلت بتمامها .

                          أقول الآن ذكر الحافظ السيوطي في الإتقان أربعة أقوال في أول ما أنزل : -

                          أحدها : ( اقرأ باسم ربك ) ( 96 ) رواه الشيخان وغيرهما من حديث عائشة .

                          ثانيها: ( ياأيها المدثر ) ( 74 ) رواه الشيخان عن سلمة بن عبد الرحمن عن جابر بن عبد الله .

                          وجمعوا بين القولين بأن الأول هو أول ما نزل على الإطلاق ، وهو صدر سورة اقرأ . والثاني أول سورة نزلت بتمامها ، أو الثاني أول ما نزل بعد فترة الوحي آمرا بتبليغ الرسالة . وقيل في الجمع غير ذلك كما في " الإتقان " .

                          ثالثها : سورة الفاتحة ، قال في الكشاف : ذهب ابن عباس ومجاهد إلى أن أول سورة نزلت ( اقرأ ) وأكثر المفسرين إلى أن أول سورة نزلت فاتحة الكتاب ( قال السيوطي ) وقال ابن حجر : والذي ذهب إليه أكثر الأئمة هو الأول . وأما الذي نسبه إلى الأكثر فلم يقل به إلا عدد أقل من القليل بالنسبة إلى من قال بالأول . وحجته ما أخرجه البيهقي في " الدلائل " والواحدي من طريق يونس بن بكير عن يونس بن عمرو عن أبيه عن أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لخديجة : " إني إذا خلوت وحدي سمعت نداء ، فقد والله خشيت أن يكون هذا أمرا . فقالت : معاذ الله ، ما كان الله ليفعل بك ، فوالله إنك لتؤدي الأمانة ، وتصل الرحم ، وتصدق الحديث " - وفي الحديث أنه أخبر ورقة بن نوفل بذلك ، وأن ورقة أشار عليه بأن يثبت ويسمع النداء ، وأنه - صلى الله عليه وسلم - لما خلا ناداه - أي الملك - " يا محمد قل : ( بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين ) - حتى بلغ - ( ولا الضالين ) قال السيوطي في الحديث : هذا مرسل ، رجاله ثقات ، ونقل عن البيهقي احتمال أن هذا بعد نزول صدر ( اقرأ باسم ربك ) .

                          هذا - وأما الأستاذ الإمام فقد رجح أنها أول ما نزل على الإطلاق ، ولم يستثن قوله تعالى : " ( اقرأ باسم ربك " ونزع في الاستدلال على ذلك منزعا غريبا في حكمة القرآن وفقه الدين فقال ما مثاله .

                          ومن آية ذلك : أن السنة الإلهية في هذا الكون - سواء أكان كون إيجاد أو كون تشريع - أن يظهر سبحانه الشيء مجملا ثم يتبعه التفصيل بعد ذلك تدريجا ، وما مثل الهدايات الإلهية [ ص: 30 ] إلا مثل البذرة والشجرة العظيمة ، فهي في بدايتها مادة حياة تحتوي على جميع أصولها ثم تنمو بالتدريج حتى تبسق فروعها بعد أن تعظم دوحتها ثم تجود عليك بثمرها . والفاتحة مشتملة على مجمل ما في القرآن ، وكل ما فيه تفصيل للأصول التي وضعت فيها . ولست أعني بهذا ما يعبرون عنه بالإشارة ودلالة الحروف ، كقولهم : إن أسرار القرآن في الفاتحة .

                          وأسرار الفاتحة في البسملة ، وأسرار البسملة في الباء ، وأسرار الباء في نقطتها ، فإن هذا لم يثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه عليهم الرضوان ، ولا هو معقول في نفسه ، وإنما هو من مخترعات الغلاة الذين ذهب بهم الغلو إلى سلب القرآن خاصته وهي البيان .

                          ( قال ) : وبيان ما أريد هو أن ما نزل القرآن لأجله أمور :

                          ( أحدها ) : التوحيد لأن الناس كانوا كلهم وثنيين وإن كان بعضهم يدعي التوحيد .

                          ( ثانيها ) : وعد من أخذ به وتبشيره بحسن المثوبة ، ووعيد من لم يأخذ به وإنذاره بسوء العقوبة . والوعد يشمل ما للأمة وما للأفراد فيعم نعم الدنيا والآخرة وسعادتهما ، والوعيد كذلك يشمل نقمهما وشقاءهما ، فقد وعد الله المؤمنين بالاستخلاف في الأرض ، والعزة والسلطان والسيادة ، وأوعد المخالفين بالخزي والشقاء في الدنيا ، كما وعد بالنعيم . وأوعد بنار الجحيم في الآخرة .

                          ( ثالثها ) : العبادة التي تحيي التوحيد في القلوب وتثبته في النفوس .

                          ( رابعها ) : بيان سبيل السعادة وكيفية السير فيه الموصل إلى نعم الدنيا والآخرة .

                          ( خامسها ) : قصص من وقف عند حدود الله تعالى وأخذ بأحكام دينه ، وأخبار الذين تعدوا حدوده ونبذوا أحكام دينه ظهريا لأجل الاعتبار ، واختيار طريق المحسنين ومعرفة سنن الله في البشر .

                          هذه هي الأمور التي احتوى عليها القرآن ، وفيها حياة الناس وسعادتهم الدنيوية والأخروية ، والفاتحة مشتملة عليها إجمالا بغير ما شك ولا ريب ، فأما التوحيد ففي قوله تعالى : ( الحمد لله رب العالمين ) لأنه ناطق بأن كل حمد وثناء يصدر عن نعمة ما فهو له تعالى ، ولا يصح ذلك إلا إذا كان سبحانه مصدر كل نعمة في الكون تستوجب الحمد . ومنها نعمة الخلق والإيجاد والتربية والتنمية ، ولم يكتف باستلزام العبارة لهذا المعنى ، فصرح به بقوله : ( رب العالمين ) . ولفظ ( رب ) ليس معناه المالك والسيد فقط ، بل فيه معنى التربية والإنماء ، وهو صريح بأن كل نعمة يراها الإنسان في نفسه وفي الآفاق منه - عز وجل - ، فليس في الكون متصرف بالإيجاد ولا بالإشقاء والإسعاد سواه .

                          [ ص: 31 ] التوحيد أهم ما جاء لأجله الدين ، ولذلك لم يكتف في الفاتحة بمجرد الإشارة إليه بل استكمله بقوله : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) فاجتث بذلك جذور الشرك والوثنية التي كانت فاشية في جميع الأمم ، وهي اتخاذ أولياء من دون الله تعتقد لهم السلطة الغيبية ، ويدعون لذلك من دون الله ، ويستعان بهم في قضاء الحوائج في الدنيا ، ويتقرب بهم إلى الله زلفى . وجميع ما في القرآن من آيات التوحيد ومقارعة المشركين هو تفصيل لهذا الإجمال .

                          وأما الوعد والوعيد : فالأول منهما مطوي في ( بسم الله الرحمن الرحيم ) فذكر الرحمة في أول الكتاب - وهي التي وسعت كل شيء - وعد بالإحسان ، وقد كررها مرة ثانية تنبيها لنا على أمره إيانا بتوحيده وعبادته رحمة منه سبحانه بنا لأنه لمصلحتنا ومنفعتنا ، وقوله تعالى ( مالك يوم الدين ) يتضمن الوعد والوعيد معا لأن معنى الدين : الخضوع . أي أن له تعالى في ذلك اليوم السلطان المطلق والسيادة التي لا نزاع فيها - لا حقيقة ولا ادعاء - وأن العالم كله يكون خاضعا لعظمته ظاهرا وباطنا يرجو رحمته ويخشى عذابه وهذا يتضمن الوعد والوعيد . أو معنى الدين : الجزاء ، وهو إما ثواب للمحسن ، وإما عقاب للمسيء ، وذلك وعد ووعيد . وزد على ذلك أنه ذكر بعد ذلك ( الصراط المستقيم ) وهو الذي من سلكه فاز ، ومن تنكبه هلك ، وذلك يستلزم الوعد والوعيد .

                          وأما العبادة فبعد أن ذكرت في مقام التوحيد بقوله : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) أوضح معناها بعض الإيضاح في بيان الأمر الرابع الذي يشملها ويشمل أحكام المعاملات وسياسة الأمة بقوله تعالى : ( اهدنا الصراط المستقيم ) أي إنه قد وضع لنا صراطا سيبينه ويحدده وتكون السعادة في الاستقامة عليه ، والشقاوة في الانحراف عنه ، وهذه الاستقامة عليه هي روح العبادة ، ويشبه هذا قوله تعالى : ( والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ) فالتواصي بالحق والصبر هو كمال العبادة بعد التوحيد . والفاتحة بجملتها تنفخ روح العبادة في المتدبر لها ، وروح العبادة هي : إشراب القلوب خشية الله وهيبته ، والرجاء لفضله ، لا الأعمال المعروفة من فعل وكف وحركات اللسان والأعضاء ، وقد ذكرت العبادة في الفاتحة قبل ذكر الصلاة وأحكامها ، والصيام وأيامه ، وكانت هذه الروح في المسلمين قبل أن يكلفوا هذه الأعمال البدنية وقبل نزول أحكامها التي فصلت في القرآن تفصيلا ما ، وإنما الحركات والأعمال مما يتوسل به إلى حقيقة العبادة ، ومخ العبادة الفكر والعبرة .

                          وأما الأخبار والقصص ففي قوله تعالى : ( صراط الذين أنعمت عليهم ) تصريح بأن هناك قوما تقدموا وقد شرع الله شرائع لهدايتهم . وصائح يصيح : ألا فانظروا في الشئون العامة التي كانوا عليها واعتبروا بها . كما قال تعالى لنبيه يدعوه إلى الاقتداء بمن كان قبله [ ص: 32 ] من الأنبياء : ( أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ) حيث بين أن القصص إنما هي للعظة والاعتبار . وفي قوله تعالى : ( غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) تصريح بأن غير المنعم عليهم فريقان : فريق ضل عن صراط الله ، وفريق جاحده وعاند من يدعو إليه ، فكان محفوفا بالغضب الإلهي والخزي في هذه الحياة الدنيا . وباقي القرآن يفصل لنا في أخبار الأمم هذا الإجمال على الوجه الذي يفيد العبرة فيشرح حال الظالمين الذين قاوموا الحق عنادا ، والذين ضلوا فيه ضلالا . وحال الذين حافظوا عليه وصبروا على ما أصابهم في سبيله .

                          فتبين من مجموع ما تقدم : أن الفاتحة قد اشتملت إجمالا على الأصول التي يفصلها القرآن تفصيلا ، فكان إنزالها أولا موافقا لسنة الله تعالى في الإبداع . وعلى هذا تكون الفاتحة جديرة بأن تسمى ( أم الكتاب ) كما نقول إن النواة أم النخلة ، فإن النواة مشتملة على شجرة النخلة كلها حقيقة ، لا كما قال بعضهم : إن المعنى في ذلك أن الأم تكون أولا ويأتي بعدها الأولاد .

                          وأقول الآن : هذا ما قاله الأستاذ الإمام مبسوطا موضحا ، ويمكن أن يقال : إن نزول أول سورة العلق قبل الفاتحة لا ينافي هذه الحكم التي بينها ؛ لأنه تمهيد للوحي المجمل والمفصل ، خاص بحال النبي - صلى الله عليه وسلم - وإعلام له بأنه يكون - وهو أمي - قارئا بعناية الله تعالى ومخرجا للأميين من أميتهم إلى العلم بالقلم ، أي الكتابة ، وفي ذلك استجابة لدعوة إبراهيم ( ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم ) ( 2 : 129 ) فسر الأستاذ الإمام الكتاب ، بالكتابة ، ثم كانت الفاتحة أول سورة نزلت كاملة ، وأمر النبي بجعلها أول القرآن ، وانعقد على ذلك الإجماع .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية