الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              42 ( باب منه) وأورده النووي في الباب المتقدم

                                                                                                                              (حديث الباب)

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم النووي ص 227 - 229 جـ1 المطبعة المصرية

                                                                                                                              [عن الصنابحي ، عن عبادة بن الصامت أنه قال دخلت عليه وهو في الموت فبكيت. فقال: مهلا، لم تبكي؟ فوالله! لئن [ ص: 93 ] استشهدت لأشهدن لك، ولئن شفعت لأشفعن لك، ولئن استطعت لأنفعنك، ثم قال: والله ما من حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لكم فيه خير إلا حدثتكموه إلا حديثا واحدا وسوف أحدثكموه اليوم وقد أحيط بنفسي: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله حرم الله عليه النار ] .

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              (الشرح)

                                                                                                                              «عن الصنابحي» ، بضم الصاد المهملة؛ هو: أبو عبد الله بن عبد الرحمن ابن عسيلة - المرادي «والصنابح» بطن من «مراد» وهو تابعي جليل.

                                                                                                                              «عن عبادة بن الصامت قال: دخلت عليه وهو في الموت، فبكيت، فقال لي: «مهلا» بإسكان الهاء. معناه «أنظرني» .

                                                                                                                              قال الجوهري: يقال «مهلا يا رجل» بالسكون، وكذلك للاثنين، والجمع، والمؤنث، وهي موحدة بمعنى «أمهل» ، فإذا قيل لك «مهلا» قلت: لا مهل والله. ولا تقل «لا مهلا» . وتقول: ما (مهل) والله! بمغنية عنك شيئا (لم تبكي» ؟ فوالله! لئن استشهدت لأشهدن لك، ولن شفعت لأشفعن لك، ولئن استطعت لأنفعك، ثم قال: والله ما من حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لكم فيه خير إلا وقد «حدثتكموه ) .

                                                                                                                              قال عياض: فيه دليل على أنه كتم ما خشي الضرر فيه والفتنة، مما لا يحتمله عقل كل واحد؛ وذلك فيما ليس تحته عمل، ولا فيه حد من حدود الشريعة. قال: ومثل هذا عن الصحابة رضي الله عنهم كثير [ ص: 94 ] في ترك الحديث بما ليس تحته عمل، ولا تدعو إليه ضرورة، أو لا تحمله عقول العامة، أو خشيت مضرته على قائله أو سامعه؛ لاسيما ما يتعلق بأخبار المنافقين والإمارة. وتعيين قوم وصفوا بأوصاف غير مستحسنة، وذم آخرين ولعنهم، والله أعلم.

                                                                                                                              (إلا حديثا واحدا، وسوف أحدثكموه اليوم وقد أحيط بنفسي ) أي: قربت من الموت وأيست من النجاة والحياة.

                                                                                                                              «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من شهد (أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله» حرم الله عليه النار» ..

                                                                                                                              قال عياض: حكي عن جماعة من السلف، منهم ابن المسيب: أن هذا وأمثاله من الأحاديث كان قبل نزول الفرائض، والأمر، والنهي.

                                                                                                                              وقال بعضهم: هي مجملة؛ تحتاج إلى شرح. ومعناه: «من قال الكلمة» . وأدى حقها وفريضتها، وهذا قول الحسن البصري.

                                                                                                                              وقيل: إن ذلك لمن قالها عند الندم والتوبة ومات على ذلك. وهذا قول البخاري.

                                                                                                                              وهذه التأويلات إنما هي إذا حملت الأحاديث على ظاهرها. وأما إذا نزلت منازلها فلا يشكل تأويلها على ما بينه المحققون. فنقرر أولا أن مذهب أهل السنة بأجمعهم: من السلف الصالح، وأهل الحديث، والفقهاء، والمتكلمين على مذهبهم من الأشعريين: أن أهل الذنوب في [ ص: 95 ] مشيئة الله تعالى. وأن كل من مات على الإيمان وشهد مخلصا من قلبه بالشهادتين فإنه يدخل الجنة. فإن كان تائبا أو سليما من المعاصي دخل الجنة برحمة ربه وحرم على النار بالجملة. فإن حملنا اللفظين الواردين على هذا فيمن هذه صفته كان بينا، وهذا معنى تأويلي الحسن والبخاري.

                                                                                                                              وإن كان هذا من المخلطين بتضييع ما أوجب الله تعالى، أو بفعل ما حرم عليه، فهو في المشيئة لا يقطع في أمره بتحريمه على النار، ولا باستحقاقه الجنة لأول وهلة؛ بل يقطع بأنه لا بد من دخوله الجنة آخرا، وحاله قبل ذلك في خطر المشيئة، إن شاء الله تعالى عذبه بذنبه، وإن شاء عفا عنه بفضله، ويمكن أن تستقل الأحاديث بنفسها، ويجمع بينها فيكون المراد باستحقاق الجنة ما قدمناه من إجماع أهل السنة ؛ أنه لا بد من دخولها لكل موحد؛ إما معجلا معافى، وإما مؤخرا بعد عقابه.

                                                                                                                              والمراد بتحريم النار «تحريم الخلود» خلافا، للخوارج والمعتزلة في المسألتين، ويجوز في حديث -(من كان آخر كلامه لا إله إلا الله - دخل الجنة) - أن يكون خصوصا لمن كان هذا آخر نطقه وخاتمة لفظه، وإن كان قبل مخلطا، فيكون سببا لرحمة الله تعالى إياه، ونجاته رأسا من النار وتحريمه عليها، بخلاف من لم يكن ذلك آخر كلامه من الموحدين المخلطين. وكذلك ما ورد في حديث عبادة من مثل هذا، ودخوله من أي أبواب الجنة شاء يكون خصوصا لمن قال ما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم وقرن بالشهادتين حقيقة الإيمان والتوحيد الذي ورد في حديثه، فيكون له من الأجر ما يرجح على سيئاته؛ ويوجب له المغفرة [ ص: 96 ] والرحمة، ودخول الجنة، لأول وهلة، إن شاء الله تعالى. هذا آخر كلام القاضي عياض رحمه الله تعالى وهو في نهاية الحسن والجمال.

                                                                                                                              قال النووي: وأما ما حكاه عن ابن المسيب وغيره فضعيف باطل، وذلك لأن راوي أحد هذه الأحاديث أبو هريرة رضي الله عنه، وهو متأخر الإسلام: أسلم عام خيبر سنة سبع بالاتفاق، وكانت أحكام الشريعة مستقرة، وأكثر هذه الواجبات كانت فروضها مستقرة؛ وكانت الصلاة والصيام والزكاة وغيرها من الأحكام، قد تقرر فروضها.

                                                                                                                              وكذا الحج، على قول من قال: فرض سنة خمس أو ست وهما أرجح من قول من قال: سنة تسع.

                                                                                                                              وذكر ابن الصلاح تأويلا آخر في الظواهر الواردة بدخول الجنة بمجرد الشهادة، فقال: يجوز أن يكون ذلك اقتصارا من بعض الرواة نشأ من تقصيره في الحفظ والضبط، لا من رسول الله صلى الله عليه وسلم بدلالة مجيئه تاما في رواية غيره. وقد تقدم نحو هذا التأويل.

                                                                                                                              قال: ويجوز أن يكون اختصارا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما خاطب به الكفار «عبدة الأوثان» الذين كان توحيدهم الله تعالى مصحوبا بسائر ما يتوقف عليه الإسلام، ومستلزما له.

                                                                                                                              والكافر إذا كان لا يقر بالوحدانية كالوثني والثنوي، فقال «لا إله إلا الله» وحاله الحال التي حكيناها، حكم بإسلامه، ولا نقول «والحالة هذه» ما قاله بعض أصحابنا من أن (من قال: لا إله إلا الله) يحكم بإسلامه، ثم يجبر على قبول سائر الأحكام؛ فإن حاصله راجع [ ص: 97 ] إلى أنه يجبر حينئذ على إتمام الإسلام، ويجعل حكمه حكم المرتد إن لم يفعل من غير أن يحكم بإسلامه بذلك، في نفس الأمر، وفي أحكام الآخرة، ومن وصفناه «مسلم» في نفس الأمر، وفي أحكام الآخرة والله أعلم.




                                                                                                                              الخدمات العلمية