الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان الكفرة من أهل الكتاب وغيرهم من العرب بمعرض أن يقولوا حين قيل لهم ذلك: كيف نغلب وما هم فينا إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود ؟ قيل لهم: إن كانت قصة آل فرعون لم تنفعكم لجهل أو طول عهد فإنه قد كان لكم آية أي عظيمة بدلالة تذكير كان في فئتين تثنية فئة للطائفة التي يفيء إليها أي يرجع من يستعظم شيئا، استنادا إليها حماية بها لقوتها ومنعتها التقتا أي في بدر فئة أي منهما مؤمنة، لما يرشد إليه قوله: تقاتل في سبيل الله أي الملك الأعلى لتكون كلمة الله هي العليا، ومن كان كذلك لم يكن قطعا إلا مؤمنا وأخرى أي منهما كافرة [ ص: 263 ] أي تقاتل في سبيل الشيطان، فالآية كما ترى من وادي الاحتباك، وهو أن يؤتى بكلامين يحذف من كل منهما شيء إيجازا، يدل ما ذكر من كل على ما حذف من الآخر، وبعبارة أخرى: هو أن يحذف من كل جملة شيء إيجازا ويذكر في الجملة الأخرى ما يدل عليه.

                                                                                                                                                                                                                                      ولما نبه سبحانه وتعالى على الاعتبار بذكر الآية نبه على موضعها بقوله: يرونهم وضمن يرى البصيرية القاصرة على مفعول واحد فعل الظن، وانتزع منه حالا ودل عليها بنصب مفعول ثان فصار التقدير: ظانيهم مثليهم فعلى قراءة نافع بالتاء الفوقانية يكون المعنى: ترون أيها المخاطبون الكفار المقاتلين للمؤمنين، وعلى قراءة غيره بالغيب المعنى، يرى المسلمون الكفار مثلي المسلمين رأي العين أي بالحزر والتخمين، لا بحقيقة العدد، هذا أقل [ ص: 264 ] ما يجوزونه فيهم، وقد كانوا ثلاثة أمثالهم ومع ذلك فجزاهم الله على مصادمتهم ونصرهم عليهم، أو يرى الكفار المسلمين مثلي الكفار مع كونهم على الثلث من عدتهم، كما هو المشهور في الآثار تأييدا من الله سبحانه وتعالى لأوليائه ليرعب الأعداء فينهزموا، أو يرى الكفار المسلمين ضعفي عدد المسلمين قال الحرالي: لتقع الإراءة على صدقهم في موجود الإسلام الظاهر والإيمان الباطن، فكان كل واحد منهم بما هو مسلم ذاتا، وبما هو مؤمن ذاتا، فالمؤمن المسلم ضعفان أبدا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين وذلك بما أن الكافر ظاهر لا باطن له فكان ذات عين، لا ذات قلب له، فكان المؤمن ضعفه، فوقعت الإراءة للفئة المؤمنة على ما هي عليه شهادة من الله سبحانه وتعالى بثبات إسلامهم وإيمانهم، وكان ذلك أدنى الإراءة لمزيد موجود الفئة المقاتلة في سبيل الله بمقدار الضعف الذي هو أقل [ ص: 265 ] الزيادة الصحيحة، وأما بالحقيقة فإن التام الدين بما هو مسلم مؤمن صاحب يقين إنما هو بالحقيقة عشر تام نظير موجود الوجود الكامل، فهو عشر ذوات بما هو صاحب يقين ودين

                                                                                                                                                                                                                                      إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين انتهى. وهذا التقليل والتكثير واقع بحسب أول القتال وآخره، وقبل اللقاء وبعده، لما أراد الله سبحانه وتعالى من الحكم كما في آية الأنفال، والمعنى: إنا فاعلون بكم أيها الكفار على أيديهم ما فعلناه بأولئك، وقد كانوا قائلين أعظم من مقالاتكم، فلم تغن عنهم كثرتهم شيئا، ولا شدة شكيمتهم ونخوتهم فإن الله سبحانه وتعالى ولي المؤمنين لطيبهم قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث

                                                                                                                                                                                                                                      ولما كان التقدير: فنصر الله سبحانه وتعالى الفئة القليلة، عطف عليه قوله: والله أي الذي له الأمر كله يؤيد والأيد تضعيف القوة الباطنة بنصره قال الحرالي: والنصر لا يكون إلا لمحق، وإنما [ ص: 266 ] يكون لغير المحق الظفر والانتقام انتهى. من يشاء أي فلا عجب فيه في التحقيق، فلذلك اتصل به قوله: إن في ذلك أي الأمر الباهر، وفي أداة البعد كما قال الحرالي إشارة بعد إلى محل علو الآية لعبرة قال: هي المجاوزة من عدوة دنيا إلى عدوة قصوى، ومن علم أدنى إلى علم أعلى، ففي لفظها بشرى بما ينالون من ورائها مما هو أعظم منها إلى غاية العبرة العظمى من الغلبة الخاتمة التي عندها تضع الحرب أوزارها حيث يكون من أهل الكمال بعدد أهل بدر ثلاثمائة ثلاثة عشر، فهو غاية العبرة لمن له بصر نافذ ونظر جامع بين البداية والخاتمة كما بدأنا أول خلق نعيده انتهى. لأولي الأبصار أي يصيرون بها من حال إلى أشرف منها في قدرة الله وعظمته وفعله بالاختيار. قال الحرالي: أول موقع العين على الصورة نظر، ومعرفة خبرتها الحسية بصر، ونفوذه إلى حقيقتها رؤية، فالبصر متوسط بين النظر والرؤية [ ص: 267 ] كما قال سبحانه وتعالى: وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون فالعبرة هي المرتبة الأولى لأولي الأبصار الذين يبصرون الأواخر بالأوائل، فأعظم غلبة بطشه في الابتداء غلبة بدر، وأعظمها في الانتهاء الغلبة الخاتمة التي لا حرب وراءها، التي تكون بالشام في آخر الزمان. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية