الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قوله تعالى:

فكيف إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم ثم جاءوك يحلفون بالله إن أردنا إلا إحسانا وتوفيقا أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم فأعرض عنهم وعظهم وقل لهم في أنفسهم قولا بليغا وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما

قالت فرقة: هي في المنافقين الذين احتكموا حسب ما تقدم، فالمعنى: فكيف بهم إذا عاقبهم الله بهذه الذنوب بنقمة منه؟ ثم حلفوا إن أردنا بالاحتكام إلى الطاغوت إلا توفيق الحكم وتقريبه دون مر الحكم وتقصي الحق. وقالت فرقة: هي في المنافقين [ ص: 593 ] الذين طلبوا دم الذي قتله عمر، فالمعنى: فكيف بهم إذا أصابتهم مصيبة في قتل قريبهم ومثله من نقم الله تعالى؟ ثم إنهم حلفوا ما أرادوا بطلب دمه إلا إحسانا وحقا، نحا إليه الزجاج. وموضع "كيف" نصب بفعل تقديره: فكيف تراهم؟ ونحوه، ويصح أن يكون موضعها رفعا، تقديره: فكيف صنيعهم؟.

وقوله تعالى: أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم تكذيب المنافقين المتقدم ذكرهم وتوعدهم، أي: فهو مجازيهم بما يعلم.

و "فأعرض عنهم" يعني عن معاقبتهم، وعن شغل البال بهم، وعن قبول أيمانهم الكاذبة في قوله "يحلفون"، وليس بالإعراض الذي هو القطيعة والهجر، فإن قوله: "وعظهم" يمنع من ذلك، و"وعظهم" معناه بالتخويف من عذاب الله وغيره من المواعظ.

والقول البليغ اختلف فيه، فقيل: هو الزجر والردع والكف بالبلاغة من القول. وقيل: هو التوعد بالقتل إن استداموا حالة النفاق، قاله الحسن، وهذا أبلغ ما يكون في نفوسهم.

والبلاغة: مأخوذة من بلوغ المراد بالقول، وحكي عن مجاهد أن قوله: "في أنفسهم" متعلق بقوله: "مصيبة" وهو مؤخر بمعنى التقديم، وهذا ضعيف.

وقوله تعالى: وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله تنبيه على جلالة الرسل، أي: فأنت يا محمد منهم، تجب طاعتك، وتتعين إجابة الدعوة إليك. و"ليطاع" نصب بلام "كي"، و"بإذن الله" معناه: بأمر الله، وحسنت العبارة [ ص: 594 ] بالإذن، إذ بنفس الإرسال تجب طاعته وإن لم ينص أمر بذلك. ويصح تعلق الباء من قوله: "بإذن" بـ "أرسلنا"، والمعنى: وما أرسلنا بأمر الله، أي: بشريعته وعبادته من رسول إلا ليطاع، والأظهر تعلقها بـ "يطاع"والمعنى: وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بأمر الله بطاعته.

قال القاضي أبو محمد رحمه الله:

وعلى التعليقين فالكلام عام اللفظ خاص المعنى، لأنا نقطع أن الله تبارك وتعالى قد أراد من بعض خلقه ألا يطيعوا، ولذلك خرجت طائفة معنى الإذن إلى العلم، وطائفة خرجته إلى الإرشاد لقوم دون قوم، وهذا تخريج حسن، لأن الله إذا علم من أحد أنه يؤمن، ووفقه لذلك فكأنه أذن له فيه. وحقيقة الإذن: التمكين مع العلم بقدر ما مكن منه.

وقوله تعالى: ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم الآية، معناه: بالمعصية والنفاق ونقصها حظها من الإيمان، و "فاستغفروا الله" معناه: طلبوا مغفرته، وتابوا إليه. و"توابا" معناه: راجعا بعباده .

التالي السابق


الخدمات العلمية