الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      ولما علم بهذا أن الذي وقف بهم عن الإيمان من الأموال والأولاد وسائر المتاع إنما هو شهوات وعرض زائل، لا يؤثره على اتباع ما شرعه الملك إلا من انسلخ من صفات البشر إلى طور البهائم التي لا تعرف إلا الشهوات، وختم ذلك بذكر آية الفئتين كان كأنه قيل: الآية العلامة، ومن شأنها الظهور، فما حجبها عنهم؟ فقيل: تزيين الشهوات لمن دنت همته. وقال [ ص: 268 ] الحرالي: لما أظهر سبحانه وتعالى في هذه السورة ما أظهره بقاء لعلن قيوميته من تنزيل الكتاب الجامع الأول، وإنزال الكتب الثلاثة: إنزال التوراة بما أنشا عليه قومها من وضع رغبتهم ورهبتهم في أمر الدنيا، فكان وعيدهم فيها ووعدهم على إقامة ما فيها إنما هو برغبة في الدنيا ورهبتها، لأن كل أمة تدعى لنحو ما جبلت عليه من رغبة ورهبة، فمن مجبول على رغبة ورهبة في أمر الدنيا، ومن مجبول على ما هو من نحو ذلك في أمر الآخرة ومن مفطور على ما هو من غير ذلك من أمر الله، فيرد خطاب كل أمة وينزل عليها كتابها من نحو ما جبلت عليه، فكان كتاب التوراة كتاب رجاء ورغبة وخوف ورهبة في موجود الدنيا، وكان كتاب الإنجيل كتاب دعوة إلى ملكوت الآخرة، وكانا متقابلين، بينهما ملابسة، لم يفصل أمرهما فرقان واضح، فكثر فيهما الاشتباه، فأنزل الله تعالى الفرقان لرفع لبس ما فيهما فأبان فيه المحكم والمتشابه من منزل الوحي، وكما أبان فيه فرقان الوحي أبان فيه أيضا فرقان الخلق وما اشتبه من أمر الدنيا والآخرة وما التبس على [ ص: 269 ] أهل الدنيا من أمر الخلق بلوائح آيات الحق عليهم، فتبين في الفرقان محكم الوحي من متشابهه، ومحكم الخلق من متشابهه وكان متشابه الخلق هو المزين من متاع الدنيا، ومحكم الخلق هو المحقق من دوام خلق الآخرة، فاطلع نجم هذه الآية لإنارة غلس ما بني عليه أمر التوراة من إثبات أمر الدنيا لهم وعدا ووعيدا، لتكون هذه الآية توطئة لتحقيق صرف النهى عن مد اليد والبصر إلى ما متع به أهلها، فأنبأ تعالى أن متاع الدنيا أمر مزين، لا حقيقة لزينته ولا حسن لما وراء زخرفه فقال: زين للناس فأبهم المزين لترجع إليه ألسنة التزيين مما كانت في رتبة علو أو دنو، وفي إناطة التزيين بالناس دون الذين آمنوا ومن فوقهم إيضاح لنزول سنهم في أسنان القلوب وأنهم ملوك الدنيا وأتباعهم ورؤساء القبائل وأتباعهم الذين هم أهل الدنيا حب الشهوات جمع شهوة، وهي [ ص: 270 ] نزوع النفس إلى محسوس لا تتمالك عنه. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي هذا الكلام إعلام بأن الذي وقع عليه التزين الحب، لا الشيء المحبوب، فصار اللازم لأهل الدنيا إنما هو محبة الأمر الكلي من هذه المسميات وربما إذا تشخص في الجزئيات لم تكن تلك الجزئيات محبوبة لهم، وفيه تحريك لهمم أهل الفرقان إلى العلو عن رتبة الناس الذين أكثرهم لا يعلمون ولا يشكرون ولا يعقلون، ثم بين ذلك بما هو محط القصد كله، وآخر العمل من حيث إن الأعلق بالنفس حب أنثاها التي هي منها خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها فقال: من النساء أي المبتدئة منهن، وأتبعه ما هو منه أيضا وهو بينه وبين الأنثى فقال: والبنين قال الحرالي: وأخفى فتنة النساء بالرجال سترا لهن، كما أخفى أمر حواء في ذكر المعصية لآدم حيث قال: وعصى آدم ربه فأخفاهن لما في ستر الحرم من الكرم، والله سبحانه وتعالى حيي كريم. انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم أتبع ذلك ما يكمل به أمره فقال: والقناطير قال الحرالي: جمع [ ص: 271 ] قنطار، يقال: هو مائة رطل ويقال: إن الرطل اثنتا عشرة أوقية، والأوقية أربعون درهما، والدرهم خمسون حبة وخمسا من حب الشعير، وأحقه أن يكون من شعير المدينة المقنطرة أي المضاعفة مرات. انتهى. ثم بينها بقوله: من الذهب والفضة ثم أتبعها الزينة الظاهرة التي هي أكبر الأسباب في تحصيل الأموال فقال: والخيل قال الحرالي: اسم جمع لهذا الجنس المجبول على هذا الاختيال لما خلق له من الاعتزاز به وقوة المنة في الافتراس عليه الذي منه سمي واحده فرسا المسومة أي المعلمة بأعلام هي سمتها وسيماها التي تشتهر بها جودتها، من السومة - بضم السين، وهي العلامة التي تجعل على الشاة لتعرف بها، وأصل السوم [ ص: 272 ] بالفتح الإرسال للرعي مكتفى في المرسل بعلامات تعرف بها نسبتها لمن تتوفر الدواعي للحفيظة عليها من أجله من الواقع عليها من الخاص والعام، فهي مسومة بسيمة تعرف بها جودتها ونسبتها والأنعام وهي جمع نعم، وهي الماشية فيها إبل، والإبل واحدها، فإذا خلت منها الإبل لم يجر على الماشية اسم نعم. انتهى. وقال في القاموس: النعم - وقد تسكن عينه - الإبل والشياء جمع أنعام، وجمع جمعه أناعيم. وقال القزاز في جامعه: النعم اسم يلزم الإبل خاصة، وربما دخل في النعم سائر المال، وجمع النعم أنعام، وقد ذكر بعض اللغويين أن النعم في الإبل خاصة، فإذا قلت: الأنعام - دخل فيها البقر والغنم، قال: وإن أفردت الإبل والغنم لم يقل فيها نعم ولا أنعام. وقال قوم: النعم والأنعام بمعنى، وقال في المجمل: والأنعام البهائم، وقال الفارابي في ديوان الأدب: والنعم واحد الأنعام، وأكثر ما يقع هذا الاسم على الإبل. ولما ذكر هذه الأعيان التي زين حبها في نفسها أتبعها ما يطلب لأجل تحصيلها [ ص: 273 ] أو تنميتها وتكثيرها فقال: والحرث

                                                                                                                                                                                                                                      ولما فصلها وختمها بما هو مثل الدنيا في البداية والنهاية والإعادة أجمل الخبر عن ثمرتها وبيان حقيقتها فقال: ذلك أي ما ذكر من الشهوات المفسر بهذه الأعيان تأكيدا لتخسيسه البعيد من إخلاد ذوي الهمم إليه ليقطعهم عن الدار الباقية. وقال الحرالي: الإشارة إلى بعده عن حد التقريب إلى حضرة الجنة انتهى. متاع الحياة الدنيا أي التي هي مع دناءتها إلى فناء. قال الحرالي: جعل سبحانه وتعالى ما أحاط به حس النظر العاجل من موجود العادل أدنى، فأفهم أن ما أنبأ به على سبيل السمع أعلى، فجعل تعالى من أمر اشتباه كتاب الكون المرئي به وذكر المشهود أن عجل محسوس العين وحمل على تركه وقبض اليد بالورع والقلب بالحب عنه، وأخر مشهود مسموع الأذن من الآخرة [ ص: 274 ] وأنبأ بالصدق عنه ونبه بالآيات عليه ليؤثر المؤمن مسمعه على منظره، كما آثر الناس منظرهم على مسمعهم، حرض لسان الشرع على ترك الدنيا والرغبة في الأخرى، فأبت الأنفس وقبلت قلوب وهيم لسان الشعر في زينة الدنيا فقبلته الأنفس ولم تسلم القلوب منه إلا بالعصمة، فلسان الحق يصرف إلى حق الآخرة ولسان الخلق يصرفه إلى زينة الدنيا، فأنبأ سبحانه وتعالى أن ما في الدنيا متاع، والمتاع ما ليس له بقاء، وهو في نفسه خسيس خساسة الجيفة انتهى.

                                                                                                                                                                                                                                      ثم أتبع ذلك سبحانه وتعالى حالا من فاعل معنى الإشارة فقال: والله الذي بيده كل شيء، ويجوز أن يكون عطفا على ما تقديره: وهو سوء المبدإ في هذا الذهاب إلى غاية الحياة، والله عنده حسن المآب قال الحرالي: مفعل من الأوب وهو الرجوع إلى ما منه كان الذهاب انتهى. فأرشد هذا الخطاب اللطيف كل من ينصح نفسه إلى منافرة هذا العرض الخسيس بأنه إن حصل له يعرض عنه بأن يكون في يده، لا في قلبه فلا يفرح به بحيث [ ص: 275 ] يشغله عن الخير، بل يجعل عونا على الطاعة وأنه إن منع منه لا يتأسف عليه لتحقق زواله ولرجاء الأول إلى ما عند خالقه الذي ترك ذلك لأجله.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية