الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله الاستفهام هنا للتعجب أو للإنكار، ومعنى التعجب فيه هو أنه لا يتصور أن يكون منكم كفر، ولو تصور لكان موضعا للعجب والاستغراب؛ لأن آيات الله تتلى عليكم، ورسوله بين ظهرانيكم، ويردكم للحق إن زغتم، وتهديكم آيات الله البينة إن ضللتم، وهذا فيه ما يومئ إلى إلقاء اليأس في قلوب اليهود من أن يصلوا إلى ما يبتغون من إيجاد الفرقة والانقسام بأمر جاهلي، وأما على اعتبار الاستفهام للإنكار فهو إما نفي للوقوع أي أنه لا يمكن أن يقع منكم الكفر، ورسول الله بينكم، وآيات الله تتلى عليكم، وإما أنه نفي للواقع، فيكون للعتب، والمعنى: كيف سوغتم لأنفسكم أن تفتحوا قلوبكم لأسباب الكفر التي ابتغاها اليهود بالاستماع إلى كلماتهم المفرقة، فيكون الإنكار لما وقع باعتباره كان يؤدي إلى الكفر، فيعودون إلى ما كانوا عليه في الجاهلية يضرب بعضهم رقاب بعض، فإذا كان الإنكار للواقع يكون الإنكار للسبب الذي وقع ويؤدي إلى السبب وهو الكفر، لا أن الكفر قد وقع. [ ص: 1333 ] والإنكار أو التعجب أساسه الحال التي هم عليها، وهي كونهم في حضرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو يتلو عليهم الآيات، فالمعنى: كيف تكفرون أو يتصور منكم الكفر، أو يسوغ لكم أن تسيروا في أسبابه، وآيات الله تتلى عليكم بلسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا بلسان أحد سواه، ويقول الزمخشري في توضيح هذا: تتلى عليكم على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غضة طرية، وبين أظهركم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينبهكم ويعظكم ويزيح شبهكم.

                                                          والخطاب في الآية: وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله - كما يبدو من عبارات الزمخشري وغيره - خاص بالمؤمنين في عصر النبي، وهم الذين شاهدوا النور المحمدي وشافهوا الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإن ساعة في حضرة النبي - صلى الله عليه وسلم - تغني عن اجتهاد سنين، كما قال أبو حنيفة رضي الله عنه. ويصح أن يكون الخطاب لكل المؤمنين، وتكون الآيات تتلى على لسان القراء والعلماء من بعده، وهي ستتلى إلى يوم القيامة: إنا نحن نـزلنا الذكر وإنا له لحافظون وأما وجود الرسول في الأخلاف فإنه يكون بوجود سنته النبوية الشريفة، وإنه إن كان الاحتياط يكون أشد - لا يخلو من فضل ثواب إن سلم القلب واهتدى العقل وتحصنت النفس، وقد روى البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأصحابه يوما: " أي المؤمنين أعجب إليكم إيمانا؟ " قالوا: الملائكة. فقال عليه الصلاة والسلام: " وكيف لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم؟!! قالوا: فنحن؟ " وكيف لا تؤمنون، وأنا بين أظهركم؟! " قالوا: فأي الناس أعجب إيمانا؟ قال: " قوم يجيئون من بعدكم يجدون صحفا يؤمنون بما فيها " .

                                                          ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم بعد أن بين سبحانه ما يحاوله اليهود وما يتمنونه وهو أن يضلوا المؤمنين كما قال تعالى: ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون

                                                          - أخذ يبين سبحانه طريق العصمة من مكايدهم، ويغلق أبواب القلب حتى لا يتأثر بما يحاولون أن يفسدوه به، فقال سبحانه: " ومن يعتصم بالله " أصل [ ص: 1334 ] الاعتصام معناه الامتناع وال التجاء والاستمساك، وهو من عصم بمعنى: منع، يقال: عصمه الطعام أي: منع عنه الجوع، وعصمته النبوة أي: منعته من أن يقع في إثم قط، ومعنى النص السامي: ومن يعتصم بالله أي: يجعل الله تعالى عاصما له ومانعا، يستنصح بكتابه، ويلجأ إلى كلام رسوله إذا ادلهمت الظلمات، فقد هدي إلى صراط مستقيم، أي: طريق مستقيم لا عوج فيه ولا انحراف، ومعنى الاعتصام بالله: الاعتصام بدين الله كما قال أكثر المفسرين، وإني أرى الاعتصام بالله هو الاعتصام بذاته سبحانه، وإن كان الاعتصام بالذات العلية يستلزم حتما الاعتصام بدينه الحق الخالد إلى يوم القيامة، ولكني اخترت الاعتصام بالله، وأن يكون الإسناد إلى ذاته سبحانه من غير تقدير مضاف؛ لأن الاعتصام بالله يقتضي ألا يحب أحدا إلا الله، ويقتضي أن يكون الشخص ربانيا لا ينظر إلى عصبية جاهلية، ولا لهوى ولا لعرض من أعراض الدنيا، فيلجأ إلى الله، ويحب الشيء لذات الله كما ورد في الحديث الشريف: " لا يؤمن أحدكم حتى يحب الشيء لا يحبه إلا لله تعالى " ، ويقتضي أن يتجه إلى الله ويتذكره عندما ينزغ في النفس نازغ، كما قال تعالى: وإما ينـزغنك من الشيطان نـزغ فاستعذ بالله ويقتضي الاعتصام بالله أن يتوكل على الله حق توكله، فيدبر الأمور ويعتزمها ثم يفوض أمر مصايرها إليه سبحانه وتعالى، ويقتضي الاعتصام بالله أن يبتعد عن مواطن الريب، ولا يتبع الشبهات، كما قال تعالى: فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب

                                                          ذلك بعض مظاهر الاعتصام بالذات العلية، ولذا نجد أنه لا حاجة إلى تقدير مضاف هو لفظ " دين " ، وفوق ذلك فإن هذا التقدير لا يستقيم معه نسق القول في [ ص: 1335 ] نظري؛ لأن الصراط المستقيم هو دين الله القويم، فكيف يكون دين الله هو الذي يهدي إلى دين الله، إنما الذي يهدي إلى دين الله هو الاعتصام بذات الله العلية.

                                                          وقوله تعالى: فقد هدي إلى صراط مستقيم عبر فيه بالماضي للإشارة إلى التحقق والتأكد والثبوت، أي:الجواب يترتب على الشرط لا محالة، فإذا وجدت حقيقة الاعتصام بالله - وإنها لأجل حقائق هذا الوجود - فإنه يوجد لا محالة الاهتداء إلى الطريق المستقيم الواضح الذي لا عوج فيه ولا أمت .

                                                          اللهم اعصمنا من الزلل، واهدنا فيمن هديت، ووفقنا لما يرضيك يارب العالمين.

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية