الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                صفحة جزء
                                344 [ ص: 127 ] 2 - باب

                                وجوب الصلاة في الثياب

                                وقول الله عز وجل: خذوا زينتكم عند كل مسجد

                                ومن صلى ملتحفا في ثوب واحد

                                ويذكر عن سلمة بن الأكوع، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " يزره ولو بشوكة ". وفي إسناده نظر.

                                ومن صلى في الثوب الذي يجامع فيه إذا لم ير فيه أذى

                                وأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يطوف بالبيت عريان.

                                التالي السابق


                                أما قوله تعالى: خذوا زينتكم عند كل مسجد فإنها نزلت بسبب طواف المشركين بالبيت عراة، وقد صح هذا عن ابن عباس ، وأجمع عليه المفسرون من السلف بعده.

                                وقد ذكر الله هذه الآية عقب ذكره قصة آدم عليه السلام، وما جرى له ولزوجه مع الشيطان حتى أخرجهما من الجنة ، ونزع عنهما لباسهما حتى بدت عوراتهما، فقال الله تعالى: يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون

                                ثم قال: وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون

                                [ ص: 128 ] والمراد بالفاحشة هنا: نزع ثيابهم عند الطواف بالبيت ، وطوافهم عراة كما كان عادة أهل الجاهلية.

                                ثم قال بعد ذلك: يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد

                                والمراد بذلك: أن يستروا عوراتهم عند المساجد، فدخل في ذلك الطواف والصلاة والاعتكاف وغير ذلك.

                                وقال طائفة من العلماء: إن الآية تدل على أخذ الزينة عند المساجد ، وذلك قدر زائد على ستر العورة، وإن كان ستر العورة داخلا فيه وهو سبب نزول الآيات، فإن كشف العورة فاحشة من الفواحش، وسترها من الزينة، ولكنه يشمل مع ذلك لبس ما يتجمل به ويتزين به عند مناجاة الله وذكره ودعائه والطواف ببيته ; ولهذا قال تعالى عقب ذلك: قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة

                                وروى موسى بن عقبة ، عن نافع ، عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " إذا صلى أحدكم فليلبس ثوبيه، فإن الله أحق من تزين له ".

                                خرجه الطبراني وغيره.

                                وقد روى جماعة هذا الحديث عن ابن عمر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم - أو عن عمر - بالشك في ذلك.

                                خرجه البزار وغيره.

                                وخرجه أبو داود كذلك بالشك، ولم يذكر فيه " فإن الله أحق من [ ص: 129 ] تزين له ".

                                وروي ذكر التزين من قول ابن عمر ، فروي عن أيوب ، عن نافع ، قال: رآني ابن عمر أصلي في ثوب واحد، قال: ألم أكسك ثوبين؟ قلت: نعم، قال: فلو أرسلتك في حاجة كنت تذهب هكذا؟ قلت: لا. قال: فالله أحق أن تزين له.

                                أخرجه الحاكم وغيره.

                                والمحفوظ في هذا الحديث: رواية من رواه بالشك في رفعه -: قاله الدارقطني .

                                وممن أمر بالصلاة في ثوبين: عمر ، وابن مسعود ، وقال ابن مسعود : إذ وسع الله فهو أزكى.

                                واستدل من قال: إن المأمور به من الزينة أكثر من ستر العورة التي يجب سترها عن الأبصار بأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يصلي الرجل في ثوب واحد ليس على عاتقه منه شيء، وبأن من صلى عاريا خاليا لا تصح صلاته، وبأن المرأة الحرة لا تصح صلاتها بدون خمار، مع أنه يباح لها وضع خمارها عند محارمها، فدل على أن الواجب في الصلاة أمر زائد على ستر العورة التي يجب سترها عن النظر.

                                وأما الصلاة في ثوب واحد ملتحفا به، ففيه عدة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ; وقد خرج البخاري بعضها، وستأتي في موضعها - إن شاء الله.

                                [ ص: 130 ] وأما حديث سلمة بن الأكوع الذي علقه البخاري ، وقال: في إسناده نظر ; فهو من رواية موسى بن إبراهيم ، عن سلمة بن الأكوع ، قال: قلت: يا رسول الله ; إني رجل أصيد، أفأصلي في القميص الواحد؟ قال: " نعم، زره ولو بشوكة ". خرجه الإمام أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن حبان في " صحيحه "، والحاكم وصححه.

                                واستدل به طائفة من فقهاء أهل الحديث على كراهة الصلاة في قميص محلول الإزار، منهم: إسحاق بن راهويه ، وسليمان بن داود الهاشمي ، والجوزجاني وغيرهم.

                                وقال الإمام أحمد فيمن صلى في قميص ليس عليه غيره: يزره ويشده. وقال - أيضا -: ينبغي أن يزره.

                                وقد روى هذا الحديث عن موسى بن إبراهيم : الدراوردي - ومن طريقه خرجه أبو داود - وعطاف بن خالد - ومن طريقه خرجه الإمام أحمد والنسائي .

                                وموسى هذا زعم ابن القطان أنه موسى بن محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي ، وذكر ذلك عن البرقاني ، وأنه نقله عن أبي داود ، فلزم من ذلك أمران يضعفان إسناده: أحدهما: ضعف موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي ; فإنه متفق عليه. والثاني: انقطاعه ; فإن موسى هذا لم يرو عن سلمة ، إنما يروي عن أبيه، عن سلمة .

                                وذكر أن الطحاوي رواه عن ابن أبي داود ، عن ابن أبي قتيلة ، عن الدراوردي ، عن موسى بن محمد بن إبراهيم ، عن أبيه، عن سلمة قال: [ ص: 131 ] فحديث أبي داود على هذا منقطع.

                                هذا مضمون ما ذكره ابن القطان ، وزعم أن هذا هو النظر الذي أشار إليه البخاري بقوله: في إسناده نظر.

                                والصحيح: أن موسى هذا هو موسى بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي ، نص على ذلك علي ابن المديني -: نقله عنه القاضي إسماعيل في كتاب " أحكام القرآن " وكذا نقله المفضل الغلابي في "تاريخه" عن مصعب الزبيري ، وكذا ذكره أبو بكر الخلال في كتاب " العلل " وصرح به - أيضا - من المتأخرين عبد الحق الإشبيلي وغيره، ولذلك خرج هذا الحديث ابن حبان في " صحيحه " ; فإنه لا يخرج فيه لموسى بن محمد بن إبراهيم التيمي شيئا ; للاتفاق على ضعفه.

                                وقد فرق بين الرجلين يحيى بن معين - أيضا - ففي " تاريخ الغلابي " عن يحيى بن معين : موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي يضعف، جاء بأحاديث منكرات.

                                ثم بعد ذلك بقليل، قال: موسى بن إبراهيم المديني ، يروي عن سلمة بن الأكوع ، عن النبي صلى الله عليه وسلم - في الصلاة في القميص الواحد: " زره ولو بشوكة " - ثبت.

                                وفي " تاريخ مضر بن محمد "، عن ابن معين نحو هذا الكلام - أيضا - إلا أنه قال في الذي روى حديث الصلاة في القميص: ليس به بأس، ولم يقل: ثبت.

                                وكذلك أبو حاتم الرازي ، صرح بالفرق بين الرجلين.

                                قال ابن أبي حاتم في " كتابه ": موسى بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي ، روى عن سلمة بن الأكوع ، وعن أبيه عن [ ص: 132 ] أنس ، روى عنه عطاف بن خالد ، وعبد الرحمن بن أبي الموالي ، وعبد العزيز بن محمد ، سمعت أبي يقول ذلك، وسمعته يقول: موسى بن محمد بن إبراهيم التيمي خلاف هذا، ذاك شيخ ضعيف الحديث. انتهى.

                                وتضعيفه التيمي دون هذا يدل على أن هذا ليس بضعيف.

                                وكذا فرق بينهما علي ابن المديني فيما نقله عنه أبو جعفر بن أبي شيبة في "سؤالاته له" وقال في التيمي : ضعيف، ضعيف، وقال في الذي يروي عن سلمة : كان صالحا وسطا.

                                وكذلك فرق بينهما ابن حبان ، وذكر موسى بن إبراهيم هذا في " ثقاته ".

                                وكذلك صرح بنسبه أبو حاتم الرازي فيما نقله عنه ابنه في كلامه على " أوهام تاريخ البخاري ".

                                وقد ورد التصريح بنسبة موسى هذا في روايات متعددة:

                                فروى الشافعي : أنا عطاف بن خالد والدراوردي ، عن موسى بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة ، عن سلمة بن الأكوع ، قال: قلت: يا رسول الله، إنا نكون في الصيد، فيصلي أحدنا في القميص الواحد؟ قال: " نعم، وليزره، ولو لم يجد إلا أن يخله بشوكة".

                                وروى الإمام أحمد في " المسند ": ثنا هاشم بن القاسم : ثنا عطاف ، عن [ ص: 133 ] موسى بن إبراهيم بن أبي ربيعة ، قال: سمعت سلمة بن الأكوع - فذكر الحديث.

                                ورواه الأثرم في " سننه ": ثنا هشام بن بهرام : ثنا عطاف ، عن موسى بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي ربيعة المخزومي ، أن سلمة بن الأكوع كان إذا قدم المدينة نزل على ابنه إبراهيم في داره، قال: فسمعته يقول: قلت: يا رسول الله، إني أكون في الصيد، وليس علي إلا قميص واحد، أفأصلي فيه؟ قال " نعم، وزره وإن لم تجد إلا شوكة ".

                                وكذلك رواه علي ابن المديني ، عن الدراوردي : أخبرني موسى بن عبد الرحمن ، أنه سمع سلمة بن الأكوع - فذكره.

                                ففي هذه الروايات التصريح بنسبته وبسماعه من سلمة .

                                وأما رواية ابن أبي قتيلة ، عن الدراوردي فلا يلتفت إليها ; فإن الشافعي وعلي ابن المديني وقتيبة بن سعيد وغيرهم رووه عن الدراوردي على الصواب، ولم يكن ابن أبي قتيلة من أهل الحديث، بل كان يعيبهم ويطعن عليهم، وقد ذكر عند الإمام أحمد أنه قال: أهل الحديث قوم سوء ! فقال أحمد : زنديق ! زنديق ! زنديق.

                                وقد رواه أبو أويس ، عن موسى بن إبراهيم ، عن أبيه، عن سلمة - أيضا.

                                ذكره البخاري في " تاريخه " عن إسماعيل بن أبي أويس ، عن أبيه.

                                قال البيهقي : والأول أصح.

                                يعني: رواية من لم يذكر في إسناده: " عن أبيه ".

                                [ ص: 134 ] وذكر البخاري في " تاريخه ": موسى بن إبراهيم بن عبد الله بن أبي ربيعة ، سمع سلمة بن الأكوع ، روى عنه عطاف بن خالد .

                                وروى عبد الرحمن بن أبي الموالي ، عن موسى بن إبراهيم بن أبي ربيعة عن أبيه، عن أنس ، أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم صلى في ثوب واحد ملتحفا فيه.

                                وهذا الحديث خرجه الإمام أحمد ، عن أبي عامر العقدي ، عن ابن أبي الموالي .

                                فهذا هو النظر الذي أشار البخاري إلى إسناده في " صحيحه "، وهو الاختلاف في إسناد الحديث على موسى بن إبراهيم .

                                وفي كونه علة مؤثرة نظر ; فإن لفظ الحديثين مختلف جدا، فهما حديثان مختلفان إسنادا ومتنا.

                                نعم، لرواية ابن أبي الموالي ، عن موسى ، عن أبيه، عن أنس علة مؤثرة، وهي أن عبد الله بن عكرمة رواه عن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة - وهو: والد موسى - عن جابر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد خرج حديثه الإمام أحمد .

                                ولعل هذه الرواية أشبه ; فإن متن هذا الحديث معروف عن جابر بن عبد الله ، لا عن أنس .

                                لكن نقل ابن أبي حاتم ، عن أبيه في كلام جاء على " أوهام تاريخ البخاري ": أن رواية موسى عن أبيه عن أنس ، ورواية إبراهيم والد موسى عن [ ص: 135 ] جابر من غير رواية ابنه موسى .

                                وهذا يدل على أن الإسنادين محفوظان.

                                وأما حديث الصلاة في القميص وزره بالشوكة فلا يعرف إلا بهذا الإسناد عن سلمة ، فلا يعلل بحديث غيره. والله أعلم.

                                وأما قوله: " من صلى في الثوب الذي يجامع فيه إذا لم ير فيه أذى " فهذا فيه غير حديث، لكنها ليست على شرطه:

                                فروى يزيد بن أبي حبيب ، عن سويد بن قيس ، عن معاوية بن حديج ، عن معاوية بن أبي سفيان ، أنه سأل أخته أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في الثوب الذي يجامعها فيه؟ قالت: نعم، إذا لم ير فيه أذى.

                                خرجه الإمام أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه .

                                وخرج الإمام أحمد من رواية ضمرة بن حبيب ، أن محمد بن أبي سفيان الثقفي حدثه، أنه سمع أم حبيبة تقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي، وعليه ثوب واحد، فيه كان ما كان.

                                وروى الأوزاعي ، عن يعيش بن الوليد ، عن معاوية بن أبي سفيان ، قال: دخلت على أم حبيبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي في ثوب واحد، فقلت: ألا أراه يصلي كما أرى؟ قالت: نعم، وهو الثوب الذي كان فيه ما كان.

                                خرجه أبو يعلى الموصلي .

                                ويعيش ثقة، إلا أني لا أظنه أدرك معاوية .

                                [ ص: 136 ] وخرج الإمام أحمد وابن ماجه من حديث عبد الملك بن عمير ، عن جابر بن سمرة قال: سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم: أصلي في الثوب الذي آتي فيه أهلي؟ قال: " نعم، إلا أن ترى شيئا فتغسله ".

                                وقال أبو حاتم الرازي والدارقطني : الصواب وقفه على جابر بن سمرة .

                                وقال عبد الله ابن الإمام أحمد : هذا الحديث لا يرفع عن جابر بن سمرة .

                                يشير إلى أن من رفعه فقد وهم.

                                وخرج ابن ماجه من رواية الحسن بن يحيى الخشني : ثنا زيد بن واقد ، عن بسر بن عبيد الله ، عن أبي إدريس الخولاني ، عن أبي الدرداء ، قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ورأسه يقطر ماء، فصلى بنا في ثوب واحد متوشحا به، قد خالف بين طرفيه، فلما انصرف قال له عمر بن الخطاب : يا رسول الله، تصلي بنا في ثوب واحد؟ قال: " نعم، أصلي فيه، وفيه " - أي: قد جامعت فيه.

                                والخشني هذا، قال ابن معين فيه: ليس بشيء.

                                وأما أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يطوف بالبيت عريان ; فهو حديث صحيح، وقد خرجه البخاري في موضع آخر من حديث أبي هريرة ، وسيأتي قريبا - إن شاء الله.

                                وهو من أحسن ما يستدل به على النهي عن الصلاة عريانا ; لأن الطواف [ ص: 137 ] يشبه بالصلاة، فالمشبه به أولى.

                                وقد روي عن ابن عباس - مرفوعا، وموقوفا -: " الطواف بالبيت صلاة ".




                                الخدمات العلمية