الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                              4114 (باب منه)

                                                                                                                              وهو في النووي في: (الباب المتقدم) .

                                                                                                                              (حديث الباب)

                                                                                                                              وهو بصحيح مسلم \النووي، ص208-211 ج14، المطبعة المصرية

                                                                                                                              [عن عبد الله بن عباس؛ أن عمر بن الخطاب خرج إلى الشام. [ ص: 370 ] حتى إذا كان بسرغ، لقيه أهل الأجناد: (أبو عبيدة بن الجراح وأصحابه) ، فأخبروه: أن الوباء قد وقع بالشام.

                                                                                                                              قال ابن عباس: فقال عمر: ادع لي المهاجرين الأولين. فدعوتهم، فاستشارهم، وأخبرهم: أن الوباء قد وقع بالشام. فاختلفوا؛ فقال بعضهم: قد خرجت لأمر، ولا نرى أن ترجع عنه. وقال بعضهم: معك بقية الناس، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء. فقال: ارتفعوا عني.

                                                                                                                              ثم قال: ادع لي الأنصار. فدعوتهم له، فاستشارهم. فسلكوا سبيل المهاجرين. واختلفوا كاختلافهم. فقال ارتفعوا عني.

                                                                                                                              ثم قال: ادع لي من كان هاهنا من مشيخة قريش، من مهاجرة الفتح. فدعوتهم، فلم يختلف عليه رجلان. فقالوا: نرى أن ترجع بالناس. ولا تقدمهم على هذا الوباء. فنادى عمر في الناس: إني مصبح على ظهر، فأصبحوا عليه، فقال أبو عبيدة بن الجراح: أفرارا من قدر الله؟ فقال عمر: لو غيرك قالها، يا أبا عبيدة! (وكان عمر يكره خلافه) نعم. نفر من قدر الله، إلى قدر الله. أرأيت! لو كانت لك إبل، فهبطت واديا له عدوتان؛ إحداهما خصبة، والأخرى جدبة. أليس إن رعيت الخصبة، رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة، رعيتها بقدر الله؟ قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف، وكان متغيبا في بعض حاجته، فقال: إن عندي من هذا علما؛ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ يقول: "إذا سمعتم به بأرض، فلا تقدموا عليه. وإذا وقع [ ص: 371 ] بأرض وأنتم بها، فلا تخرجوا فرارا منه".

                                                                                                                              قال: فحمد الله عمر بن الخطاب، ثم انصرف
                                                                                                                              ].

                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                              (الشرح)

                                                                                                                              (عن عبد الله بن عباس) رضي الله عنهما؛ (أن عمر بن الخطاب) رضي الله عنه: (خرج إلى الشام، حتى إذا كان "بسرغ") بفتح السين وسكون الراء، ثم معجمة. وحكى عياض وغيره أيضا: فتح الراء. والمشهور: إسكانها. ويجوز صرفه، وتركه. وهي قرية في طرف الشام، مما يلي الحجاز.

                                                                                                                              (لقيه أهل الأجناد) ؛ وفي رواية أخرى: "أمراء الأجناد". والمراد بالأجناد هنا: مدن الشام الخمس. وهي فلسطين، وأردن، ودمشق، وحمص، وقنسرين. هكذا فسروه، واتفقوا عليه.

                                                                                                                              ومعلوم: أن "فلسطين": اسم لناحية بيت المقدس. "والأردن": اسم لناحية سيان، وطبرية، وما يتعلق بهما. ولا يضر إطلاق اسم "المدينة" عليه.

                                                                                                                              (أبو عبيدة بن الجراح، وأصحابه. فأخبروه: أن الوباء قد وقع بالشام. قال ابن عباس: فقال عمر: ادع لي المهاجرين الأولين. فدعوتهم) . قال عياض: المراد بهم: من صلى للقبلتين. فأما من أسلم بعد تحويل القبلة، فلا يعد فيهم.

                                                                                                                              (فاستشارهم، وأخبرهم: أن الوباء قد وقع بالشام، فاختلفوا؛ [ ص: 372 ] فقال بعضهم: قد خرجت لأمر، ولا نرى أن ترجع عنه. وقال بعضهم: معك بقية الناس، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه) وآله (وسلم؛ ولا نرى أن تقدمهم على هذا الوباء. قال: ارتفعوا عني. ثم قال: ادع لي الأنصار. فدعوتهم له، فاستشارهم، فسلكوا سبيل المهاجرين. واختلفوا كاختلافهم. فقال: ارتفعوا عني. ثم قال: ادع لي من كان ههنا من مشيخة قريش، من مهاجرة الفتح. فدعوتهم) . إنما رتبهم هكذا على حسب فضائلهم.

                                                                                                                              والمراد بهم: هم الذين أسلموا قبل الفتح، فحصل لهم فضل بالهجرة قبل الفتح، إذ لا هجرة بعد الفتح.

                                                                                                                              وقيل: هم مسلمة الفتح، الذين هاجروا بعده. فحصل لهم اسم، دون الفضيلة. قال عياض: هذا أظهر لأنهم الذين ينطبق عليهم: "مشيخة قريش".

                                                                                                                              (فلم يختلف عليه رجلان. فقالوا: نرى أن ترجع بالناس، ولا تقدمهم على هذا الوباء. فنادى عمر في الناس: إني مصبح على ظهر، فأصبحوا عليه. فقال أبو عبيدة بن الجراح: "أفرارا من قدر الله؟) . قال عياض: وكان رجوع عمر رضي الله عنه، لرجحان طرف الرجوع، لكثرة القائلين به، وأنه أحوط. ولم يكن مجرد تقليد لمسلمة الفتح، لأن بعض المهاجرين الأولين، وبعض الأنصار: [ ص: 373 ] أشاروا بالرجوع. وبعضهم: بالقدوم عليه. وانضم إلى المشيرين بالرجوع: رأي مشيخة قريش، فكثر القائلون به، مع ما لهم من السن والخبرة وكثرة التجارب، وسداد الرأي. وحجة الطائفتين واضحة، مبينة في الحديث. وهما مستمدان من أصلين في الشرع؛

                                                                                                                              أحدهما: التوكل، والتسليم للقضاء.

                                                                                                                              والثاني: الاحتياط والحذر، ومجانبة أسباب الإلقاء باليد: إلى التهلكة.

                                                                                                                              (فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة!) جواب "لو" محذوف. وفي تقديره وجهان، ذكرهما صاحب التحرير وغيره؛

                                                                                                                              أحدهما: لو قاله غيرك لأدبته، لاعتراضه علي في مسألة اجتهادية، وافقني عليها أكثر الناس، وأهل الحل والعقد فيها.

                                                                                                                              والثاني: لو قالها غيرك، لم أتعجب منه. وإنما أتعجب من قولك أنت ذلك، مع ما أنت عليه من العلم والفضل.

                                                                                                                              (-وكان عمر يكره خلافه-: نعم. نفر من قدر الله، إلى قدر الله. أرأيت! لو كانت لك إبل، فهبطت واديا له عدوتان) ؛ "العدوة" بضم العين وكسرها: هي جانب الوادي (إحداهما: خصيبة. والأخرى: جدبة) بفتح الجيم وإسكان الدال. وهي ضد الخصيبة. وقال صاحب التحرير: "الجدبة" هنا بسكون الدال وكسرها. قال: [ ص: 374 ] "والخصبة" كذلك.

                                                                                                                              (أليس إن رعيت الخصبة، رعيتها بقدر الله؟ وإن رعيت الجدبة، رعيتها بقدر الله؟) . ذكر له عمر رضي الله عنه: دليلا واضحا من القياس الجلي، الذي لا شك في صحته. وليس ذلك اعتقادا منه: أن الرجوع يرد المقدور. وإنما معناه: أن الله تعالى أمر: بالاحتياط والحزم، ومجانبة أسباب الهلاك. كما أمر سبحانه: بالتحصن من سلاح العدو، وتجنب المهالك. وإن كان كل واقع بقضاء الله وقدره، السابق في علمه. وقاس عمر على رعي العدوتين؛ لكونه واضحا لا ينازع فيه أحد، مع مساواته لمسألة النزاع.

                                                                                                                              (قال: فجاء عبد الرحمن بن عوف، وكان مغيبا في بعض حاجته. فقال: إن عندي من هذا علما؛ سمعت رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، يقول: "إذا سمعتم به بأرض: فلا تقدموا عليه. وإذا وقع بأرض وأنتم بها: فلا تخرجوا فرارا منه". قال: فحمد الله عمر بن الخطاب، ثم انصرف) .

                                                                                                                              قيل: إنما رجع عمر لحديث ابن عوف: لأنه لم يكن ليرجع لرأي [ ص: 375 ] دون رأي، حتى يجد علما. وتأول هؤلاء.

                                                                                                                              وفي رواية أخرى: "فرجع عمر من سرغ".

                                                                                                                              وعن سالم بن عبد الله: "أن عمر إنما انصرف بالناس، عن حديث عبد الرحمن".

                                                                                                                              قال النووي: وفي حديث عمر هذا، فوائد كثيرة؛

                                                                                                                              منها: خروج الإمام بنفسه في ولايته، في بعض الأوقات، ليشاهد أحوال رعيته، ويزيل ظلم المظلوم، ويكشف كرب المكروب، ويسد خلة المحتاج، ويقمع أهل الفساد، ويخافه أهل البطالة والأذى والولاة، ويحذروا تجسسه عليهم، ووصول قبائحهم إليه، فينكفوا. ويقيم في رعيته شعائر الإسلام، ويؤدب من رآهم مخلين بذلك. ولغير ذلك من المصالح.

                                                                                                                              ومنها: تلقي الأمراء ووجوه الناس: الإمام عند قدومه. وإعلامهم إياه بما حدث في بلادهم: من خير وشر، ووباء، ورخص وغلاء، وشدة ورخاء، وغير ذلك.

                                                                                                                              ومنها: استحباب مشاورة أهل العلم والرأي، في الأمور الحادثة. وتقديم أهل السابقة في ذلك.

                                                                                                                              [ ص: 376 ] ومنها: تنزيل الناس منازلهم، وتقديم أهل الفضل على غيرهم، والابتداء بهم في المكارم.

                                                                                                                              ومنها: جواز الاجتهاد في الحروب ونحوها. كما يجوز، في الأحكام.

                                                                                                                              ومنها: قبول خبر الواحد. فإنهم قبلوا خبر "عبد الرحمن بن عوف".

                                                                                                                              ومنها: صحة القياس الجلي، وجواز العمل به.

                                                                                                                              ومنها: ابتداء العالم بما عنده من العلم، قبل أن يسأله كما فعل عبد الرحمن.

                                                                                                                              ومنها: اجتناب أسباب الهلاك.

                                                                                                                              ومنها: منع القدوم على الطاعون، ومنع الفرار منه. والله أعلم.




                                                                                                                              الخدمات العلمية