الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (30) قوله تعالى : يوم تجد : في ناصبه أوجه ، أحدها : أنه منصوب بقدير ، أي قدير في ذلك اليوم العظيم ، لا يقال : يلزم من ذلك تقييد قدرته بزمان ، لأنه إذا قدر في ذلك اليوم الذي يسلب كل أحد قدرته فلأن يقدر في غيره بطريق أولى وأحرى ، وإلى هذا ذهب أبو بكر بن الأنباري .

                                                                                                                                                                                                                                      الثاني : أنه منصوب بيحذركم أي : يخوفكم عقابه في ذلك اليوم ، وإلى [هذا ] نحا أبو إسحاق ، ورجحه . ولا يجوز أن ينتصب بيحذركم المتأخرة . قال ابن الأنباري : "لأنه لا يجوز أن يكون " اليوم منصوبا بيحذركم المذكور في هذه الآية ، لأن واو النسق لا يعمل ما بعدها فيما قبلها ، وعلى ما ذكره أبو إسحاق يكون ما بين الظرف وناصبه معترضا ، وهو كلام طويل ، والفصل بمثله مستبعد ، هذا من جهة الصناعة ، وأما من جهة المعنى فلا يصح ، لأن التخويف موجود ، واليوم موعود فكيف يتلاقيان " .

                                                                                                                                                                                                                                      الثالث : أن يكون بالمصير ، وإليه نحا الزجاج أيضا وابن الأنباري [ ص: 115 ] ومكي وغيرهم ، وهذا ضعيف على قواعد البصريين ، للزوم الفصل بين المصدر ومعموله بكلام طويل ، وقد يقال : إن جمل الاعتراض لا نبالي بها فاصلة ، وهذا من ذاك .

                                                                                                                                                                                                                                      الرابع : أن ينتصب بـ " اذكر "مقدرا مفعولا به لا ظرفا . وقدر الطبري الناصب له " اتقوا " ، وفي التقدير ما فيه من كونه على خلاف الأصل مع الاستغناء عنه .

                                                                                                                                                                                                                                      الخامس : أن العامل فيه ذلك المضاف المقدر قبل " نفسه "أي : يحذركم الله عقاب نفسه يوم تجد ، فالعامل فيه " عقاب " لا "يحذركم " ، قاله أبو البقاء . وفي قوله ويحذركم فرار مما أوردته على أبي إسحاق كما تقدم تحقيقه .

                                                                                                                                                                                                                                      السادس : أنه منصوب بتود ، قال الزمخشري : " يوم تجد منصوب بتود ، والضمير في "بينه " لليوم ، أي : يوم القيامة حين تجد كل نفس خيرها وشرها [حاضرين ] ، تتمنى لو أن بينها وبين ذلك اليوم وهوله أمدا بعيدا " . وهذا الذي ذكره الزمخشري وجه ظاهر لا خفاء بحسنه ، ولكن في هذه المسألة خلاف ضعيف : جمهور البصريين والكوفيين على جوازها ، وذهب الأخفش والفراء إلى منعها ، وضابط هذه المسألة : أنه إذا كان الفاعل ضميرا عائدا على شيء متصل بمعمول الفعل نحو : ثوبي أخويك يلبسان " فالفاعل هو الألف ، وهو ضمير عائد على "أخويك " المتصلين بمفعول يلبسان ، ومثله : "غلام هند ضربت " ففاعل "ضربت " ضمير عائد على "هند " المتصلة بغلام المنصوب بضربت ، والآية من هذا القبيل : فإن فاعل "تود " ضمير عائد على [ ص: 116 ] " نفس " المتصلة بيوم لأنها في جملة ، أضيف الظرف إلى تلك الجملة ، والظرف منصوب بتود ، والتقدير : يوم وجدان كل نفس خيرها وشرها محضرين تود كذا . احتج الجمهور على الجواز بالسماع وهو قول الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                      1230 - أجل المرء يستحث ولا يد ري إذا يبتغي حصول الأماني



                                                                                                                                                                                                                                      ففاعل "يستحث " ضمير عائد على "المرء " المتصل بـ "أجل " المنصوب بـ "يستحث " . واحتج المانعون بأن المعمول فضلة يجوز الاستغناء عنه ، وعود الضمير عليه في هذه المسائل يقتضي لزوم ذكره فيتنافى هذان السببان ، ولذلك أجمع على منع : "زيدا ضرب " و "زيدا ظن قائما " أي : ضرب نفسه وظنها ، وهو دليل واضح للمانع لولا ما يرده من السماع كما أنشدتك البيت آنفا . وفي الفرق بين "غلام زيد ضرب " وبين "زيدا ضرب " حيث جاز الأول وامتنع الثاني بمقتضى العلة المذكورة غموض وعسر ليس هذا محل ذكره .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : تجد يجوز أن تكون المتعدية لواحد بمعنى تصيب ، ويكون "محضرا " على هذا منصوبا على الحال ، وهذا هو الظاهر ، ويجوز أن تكون علمية ، فتتعدى لاثنين أولهما "ما عملت " والثاني : "محضرا " وليس بالقوي في المعنى .

                                                                                                                                                                                                                                      و "ما " يجوز فيها وجهان ، أظهرهما : أنها بمعنى الذي ، فالعائد على هذا مقدر أي : ما عملته ، فحذف لاستكمال الشروط ، و "من خير " حال : إما من الموصول وإما من عائده ، ويجوز أن تكون "من " لبيان الجنس . ويجوز أن تكون "ما " مصدرية ، ويكون المصدر حينئذ واقعا موقع المفعول تقديره : يوم تجد كل نفس عملها أي : معمولها ، فلا عائد حينئذ عند الجمهور .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 117 ] قوله : وما عملت من سوء تود : يجوز في "ما " هذه أن تكون منسوقة على "ما " التي قبلها بالاعتبارين المذكورين فيها أي : وتجد الذي عملته أو : وتجد عملها أي : معمولها من سوء ، فإن جعلنا "تجد " متعدية لاثنين فالثاني محذوف ، أي : وتجد الذي عملته من سوء محضرا ، أو تجد عملها محضرا نحو : "علمت زيدا ذاهبا وبكرا " أي : وبكرا ذاهبا ، فحذفت مفعوله الثاني للدلالة عليه بذكره مع الأول ، وإن جعلناها متعدية لواحد فالحال من الموصول أيضا محذوفة أي : تجده محضرا ؛ أي : في هذه الحال ، وهذا نظير قولك : "أكرمت زيدا ضاحكا وعمرا " أي : وعمرا ضاحكا ، حذفت حال الثاني لدلالة حال الأول عليه ، وعلى هذا فيكون في الجملة من قوله "تود " وجهان ، أحدهما : أن تكون في محل نصب على الحال من فاعل "عملت " أي : وما عملته حال كونها وادة أي : متمنية البعد من السوء . الثاني : أن تكون مستأنفة ، أخبر الله عنها بذلك ، ويجوز أن تكون "ما " مرفوعة بالابتداء ، والخبر الجملة من قوله : "تود " أي : والذي عملته - أو وعملها - تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا .

                                                                                                                                                                                                                                      والضمير في "بينه " فيه وجهان ، أحدهما - وهو الظاهر - عوده على "ما عملت " ، وأعاده الزمخشري على "اليوم " قال الشيخ : "وأبعد الزمخشري في عوده على " اليوم "لأن أحد القسمين اللذين أحضروا في ذلك له هو الخير الذي عمله ، ولا يطلب تباعد وقت إحضار الخير إلا بتجوز ، إذ كان يشتمل على إحضار الخير والشر فتود تباعده لتسلم من الشر ، ودعه لا يحصل له الخير ، والأولى عوده إلى ما عملت من السوء لأنه أقرب مذكور . ولأن المعنى : أن السوء يتمنى في ذلك اليوم التباعد منه " .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 118 ] فإن قيل : هل يجوز أن تكون "ما " هذه شرطية ؟ فالجواب أن الزمخشري وابن عطية منعا من ذلك ، وجعلا علة المنع عدم [جزم ] الفعل الواقع جوابا وهو "تود " ، وهذا ليس بشيء ، لأن الناس نصوا على أنه إذا وقع فعل الشرط ماضيا والجزاء مضارعا جاز في ذلك المضارع وجهان : الجزم والرفع ، وقد سمعا من لسان العرب ، ومنه بيت زهير :


                                                                                                                                                                                                                                      1231 - وإن أتاه خليل يوم مسألة     يقول لا غائب مالي ولا حرم



                                                                                                                                                                                                                                      ومن الجزم قوله تعالى : من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف ، من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها فدل ذلك على أن المانع من شرطيتها ليس هو رفع "تود " ، وأجاب الشيخ بأنها ليست شرطية لا لما ذكره الزمخشري وابن عطية بل لعلة أخرى . ولنذكر هنا ما ذكره قال : "كنت سئلت عن قول الزمخشري " فذكره ثم قال : "ولنذكر ها هنا ما تمس إليه الحاجة بعد أن نقدم ما ينبغي تقديمه في هذه المسألة فنقول : إذا كان فعل الشرط ماضيا وبعده مضارع تتم به جملة الشرط والجزاء جاز في ذلك المضارع الجزم وجاز فيه الرفع ، مثال ذلك : " إن قام زيد يقم ويقوم وعمرو "فأما الجزم فعلى جواب الشرط ، ولا نعلم في ذلك خلافا وأنه فصيح إلا ما ذكره صاحب كتاب " الإعراب "عن بعض النحويين [ ص: 119 ] أنه لا يجيء في الكلام الفصيح ، وإنما يجيء مع " كان "كقوله تعالى : من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف لأنها أصل الأفعال ولا يجوز ذلك مع غيرها ، وظاهر كلام سيبويه وكلام الجماعة أنه لا يختص ذلك بـ " كان "بل سائر الأفعال في ذلك مثل " كان " ، وأنشد سيبويه للفرزدق :


                                                                                                                                                                                                                                      1232 - دست رسولا بأن القوم إن قدروا     عليك يشفوا صدورا ذات توغير



                                                                                                                                                                                                                                      وقال أيضا :


                                                                                                                                                                                                                                      1233 - تعش فإن عاهدتني لا تخونني     نكن مثل من يا ذئب يصطحبان



                                                                                                                                                                                                                                      وأما الرفع فإنه مسموع من لسان العرب كثيرا ، وقال بعض أصحابنا : هو أحسن من الجزم ، ومنه بيت زهير السابق إنشاده ، ومثله أيضا قوله :


                                                                                                                                                                                                                                      1234 - وإن شل ريعان الجميع مخافة     نقول جهارا ويلكم لا تنفروا



                                                                                                                                                                                                                                      وقول أبي صخر :


                                                                                                                                                                                                                                      1235 - ولا بالذي إن بان عنه حبيبه     يقول ويخفي الصبر إني لجازع



                                                                                                                                                                                                                                      وقال آخر :


                                                                                                                                                                                                                                      1236 - وإن بعدوا لا يأمنون اقترابه     تشوف أهل الغائب المتنظر



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 120 ] وقال آخر :


                                                                                                                                                                                                                                      1237 - فإن كان لا يرضيك حتى تردني     إلى قطري لا إخالك راضيا



                                                                                                                                                                                                                                      وقال آخر :


                                                                                                                                                                                                                                      1238 - إن يسألوا الخير يعطوه وإن خبروا     في الجهد أدرك منهم طيب أخبار



                                                                                                                                                                                                                                      قلت : هكذا ساق هذا البيت في جملة الأبيات الدالة على رفع المضارع ، ويدل على قصده ذلك أنه قال بعد إنشاده هذه الأبيات كلها : "فهذا الرفع كما رأيت كثير " انتهى ، وهذا البيت ليس من ذلك في ورد ولا صدر لأن [المضارع فيه مجزوم وهو "يعطوه " وعلامة جزمه سقوط النون فكان ينبغي ] أن ينشده حين أنشد : "دست رسولا " وقوله : "تعال فإن عاهدتني " البيتين .

                                                                                                                                                                                                                                      ثم قال : "فهذا الرفع كثير كما رأيت ، ونصوص الأئمة على جوازه في الكلام وإن اختلفت تأويلاتهم كما سنذكره ، وقال صاحبنا أبو جعفر أحمد بن عبد النور بن رشيد المالقي - وهو مصنف كتاب " رصف المباني "رحمه الله - : " لا أعلم منه شيئا "جاء في الكلام ، وإذا جاء فقياسه الجزم ، لأنه أصل العمل [ ص: 121 ] في المضارع ، تقدم الماضي أو تأخر " ، وتأول هذا المسموع على إضمار الفاء وجعله مثل قول الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                      1239 - ... ... ... ...     إنك إن يصرع أخوك تصرع



                                                                                                                                                                                                                                      على مذهب من جعل أن الفاء منه محذوفة . وأما المتقدمون فاختلفوا في تخريج الرفع : فذهب سيبويه إلى أن ذلك على سبيل التقديم وأن جواب الشرط ليس مذكورا عنده . وذهب المبرد والكوفيون إلى أنه هو الجواب . وإنما حذفت منه الفاء ، والفاء ما بعدها كقوله تعالى : ومن عاد فينتقم الله منه ، فأعطيت في الإضمار حكمها في الإظهار . وذهب غيرهما إلى أن المضارع هو الجواب بنفسه أيضا كالقول قبله ، إلا أنه ليس معه فاء مقدرة قالوا : لكن لما كان فعل الشرط ماضيا لا يظهر لأداة الشرط فيه عمل ظاهر استضعفوا أداة الشرط فلم يعملوها في الجواب لضعفها ، فالمضارع المرفوع عند هذا القائل جواب بنفسه من غير نية تقديم ولا على إضمار الفاء ، وإنما لم يجزم لما ذكر ، وهذا المذهب والذي قبله ضعيفان .

                                                                                                                                                                                                                                      وتلخص من هذا الذي قلناه أن رفع المضارع لا يمنع أن يكون ما قبله شرطا لكن امتنع أن يكون "وما عملت " شرطا لعلة أخرى ، لا لكون "تود " [ ص: 122 ] مرفوعا ، وذلك على ما نقرره على مذهب سيبويه من أن النية بالمرفوع التقديم ، ويكون إذ ذاك دليلا على الجواب لا نفس الجواب فنقول : إذا كان "تود " منويا به التقديم أدى إلى تقدم المضمر على ظاهره في غير الأبواب المستثناة في العربية ، ألا ترى أن الضمير في قوله "وبينه " عائد على اسم الشرط الذي هو "ما " فيصير التقدير : "تود كل نفس لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ما عملت من سوء " فلزم من هذا التقدير تقديم المضمر على الظاهر وذلك لا يجوز .

                                                                                                                                                                                                                                      فإن قلت : لم لا يجوز ذلك والضمير قد تأخر عن اسم الشرط وإن كانت النية به التقديم ، فقد حصل عود الضمير على الاسم الظاهر قبله ، وذلك نظير : "ضرب زيدا غلامه " فالفاعل رتبته التقديم ووجب تأخره لصحة عود الضمير ؟ فالجواب أن اشتمال الدليل على ضمير اسم الشرط يوجب تأخيره عنه لعود الضمير فيلزم من ذلك اقتضاء جملة الشرط لجملة الدليل ، وجملة الشرط إنما تقتضي جملة الجزاء لا دليله ، ألا ترى أنها ليست بعاملة في جملة الدليل ، بل إنها تعمل في جملة الجزاء ، وجملة الدليل لا موضع لها من الإعراب ، وإذا كان كذلك تدافع الأمر ، لأنها من حيث هي جملة دليل لا يقتضيها فعل الشرط ، ومن حيث عود الضمير على اسم الشرط اقتضاها فتدافعا ، وهذا بخلاف "ضرب زيدا غلامه " فإنها جملة واحدة ، والفعل عامل في الفاعل والمفعول معا ، فكل واحد منهما يقتضي صاحبه ، ولذلك جاز عند بعضهم "ضرب غلامها هندا " لاشتراك الفاعل المضاف إلى الضمير والمفعول الذي عاد عليه الضمير في العامل ، وامتنع "ضرب غلامها جار هند " لعدم الاشتراك في العامل ، فهذا فرق ما بين المسألتين ، ولا يحفظ من لسان العرب : [ ص: 123 ] "أود لو أن أكرمه أيا ضربت هند " لأنه يلزم منه تقديم المضمر على مفسره في غير المواضع التي ذكرها النحويون ، فلذلك لا يجوز تأخيره . انتهى " .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد جوز أبو البقاء كونها شرطية ، ولم يلتفت لما منعوا به ذلك فقال : " والثاني : أنها شرط ، وارتفع "تود " على إرادة الفاء . أي : فهي تود ، ويجوز أن يرتفع من غير تقدير حرف لأن الشرط هنا ماض ، وإذا لم يظهر في الشرط لفظ الجزم جاز في الجزاء الوجهان : الجزم والرفع " . انتهى وقد تقدم تحقيق القول في ذلك ، والظاهر موافقته للقول الثالث في تخريج الرفع في المضارع كما تقدم تحقيقه .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ عبد الله وابن أبي عبلة " ودت "بلفظ الماضي ، وعلى هذه القراءة يجوز في " ما "وجهان ، أحدهما : أن تكون شرطية ، وفي محلها حينئذ احتمالان : الأول النصب بالفعل بعدها ، والتقدير : أي شيء عملت من سوء ودت ، فودت جواب الشرط . والاحتمال الثاني : الرفع على الابتداء ، والعائد على المبتدأ محذوف تقديره : وما عملته ، وهذا جائز في اسم الشرط خاصة عند الفراء في فصيح الكلام ، أعني حذف عائد المبتدأ إذا كان منصوبا بفعل نحو : " أيهم تضرب أكرمه "برفع أيهم ، وإذا كان المبتدأ غير ذلك ضعف نحو : " زيد ضربت " . وسيأتي لهذه المسألة مزيد بيان في موضعين من القرآن ، أحدهما قراءة من قرأ : أفحكم الجاهلية يبغون . والثاني : وكل وعد الله الحسنى في الحديد ، واختلاف الناس في ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 124 ] الوجه الثاني من وجهي "ما " أن تكون موصولة بمعنى : الذي عملته من سوء ودت لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ، ومحلها على هذا رفع بالابتداء ، و "ودت " الخبر ، واختاره الزمخشري فإنه قال : "لكن الحمل على الابتداء والخبر أوقع في المعنى لأنه حكاية الكائن في ذلك اليوم ، وأثبت لموافقة قراءة العامة " . انتهى .

                                                                                                                                                                                                                                      فإن قلت لم لم يمتنع أن تكون "ما " شرطية على هذه القراءة كما امتنع ذلك فيها على قراءة العامة ؟ فالجواب أن العلة إن كانت رفع الفعل وعدم جزمه كما قال به الزمخشري وابن عطية فهي مفقودة في هذه القراءة لأن الماضي مبني اللفظ لا يظهر فيه لأداة الشرط عمل ، وإن كانت العلة أن النية به التقديم فليزم عود الضمير على متأخر لفظا ورتبة ، فهي أيضا مفقودة فيها ؛ إذ لا داعي يدعو لذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      و "لو " هنا على بابها من كونها حرفا لما كان سيقع لوقوع غيره ، وعلى هذا ففي الكلام حذفان ، أحدهما : حذف مفعول "يود " ، والثاني : حذف جواب "لو " ، والتقدير فيهما : تود تباعد ما بينها وبينه لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا لسرت بذلك ، أو لفرحت ونحوه . والخلاف في "لو " بعد فعل الودادة وما بمعناه أنها تكون مصدرية - كما تقدم تحريره في البقرة - يبعد مجيئه هنا ، لأن بعدها حرفا مصدريا وهو أن . قال الشيخ : "ولا يباشر حرف مصدري حرفا مصدريا إلا قليلا ، كقوله تعالى : إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون قلت : قوله " إلا قليلا "يشعر بجوازه وهو لا يجوز البتة ، فأما [ ص: 125 ] ما أورده من الآية الكريمة فقد نص النحاة على أن " ما "زائدة . وقد تقدم الكلام في " أن "الواقعة بعد " لو "هذه : هل محلها الرفع على الابتداء والخبر محذوف كما ذهب إليه سيبويه ، أو أنها في محل رفع بالفاعلية بفعل مقدر أي : لو ثبت أن بينها ؟ وما قال الناس في ذلك .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد زعم بعضهم أن " لو "هنا مصدرية ، هي وما في حيزها في موضع المفعول لـ " تود " ، أي : تود تباعد ما بينها وبينه ، وفيه ذلك الإشكال ، وهو دخول حرف مصدري على مثله ، ولكن المعنى على تسلط الودادة على " لو "وما في حيزها لولا المانع الصناعي .

                                                                                                                                                                                                                                      والأمد : غاية الشيء ومنتهاه وجمعه آماد نحو : جبل وأجبال فأبدلت الهمزة ألفا لوقوعها ساكنة بعد همزة " أفعال " . وقال الراغب : " الأمد والأبد يتقاربان ، لكن الأبد عبارة عن مدة الزمان التي ليس لها حد محدود ، ولا يتقيد فلا يقال : أبد كذا ، والأمد مدة لها حد مجهول إذا أطلق ، وينحصر إذا قيل : أمد كذا ، كما يقال : زمان كذا ، والفرق بين الأمد والزمان : أن الأمد يقال باعتبار الغاية ، والزمان عام في المبدأ والغاية ، ولذلك قال بعضهم : المدى والأمد يتقاربان " .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية