الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              النظر الثاني في أحكام الاجتهاد والنظر في حق المجتهد في تأثيمه وتخطئته وإصابته وتحريم التقليد عليه وتحريم نقض حكمه الصادر عن الاجتهاد ، فهذه أحكام النظر .

              الأول : في تأثيم المخطئ في الاجتهاد والإثم ينتفي عن كل من جمع صفات المجتهدين إذا تمم الاجتهاد في محله فكل اجتهاد تام إذا صدر من أهله وصادف محله فثمرته حق وصواب ، والإثم عن المجتهد منفي . والذي نختاره أن الإثم والخطأ متلازمان ، فكل مخطئ آثم وكل [ ص: 348 ] آثم مخطئ ، ومن انتفى عنه الإثم انتفى عنه الخطأ .

              فلنقدم حكم الإثم أولا فنقول : النظريات تنقسم إلى ظنية وقطعية ، فلا إثم في الظنيات إذ لا خطأ فيها ، والمخطئ في القطعيات آثم . والقطعيات ثلاثة أقسام : كلامية ، وأصولية ، وفقهية . أما الكلامية فنعني بها العقليات المحضة ، والحق فيها واحد ، ومن أخطأ الحق فيها فهو آثم ، ويدخل فيه حدوث العالم وإثبات المحدث وصفاته الواجبة والجائزة والمستحيلة وبعثة الرسل وتصديقهم بالمعجزات وجواز الرؤية وخلق الأعمال وإرادة الكائنات وجميع ما الكلام فيه مع المعتزلة والخوارج والروافض والمبتدعة .

              وحد المسائل الكلامية المحضة ما يصح للناظر درك حقيقته بنظر العقل قبل ورود الشرع ، فهذه المسائل الحق فيها واحد ومن أخطأه فهو آثم ، فإن أخطأ فيما يرجع إلى الإيمان بالله ورسوله فهو كافر ، وإن أخطأ فيما لا يمنعه من معرفة الله عز وجل ومعرفة رسوله كما في مسألة الرؤية وخلق الأعمال وإرادة الكائنات وأمثالها فهو آثم من حيث عدل عن الحق وضل ، ومخطئ من حيث أخطأ المتيقن ومبتدع من حيث قال قولا مخالفا للمشهور بين السلف ولا يلزم الكفر .

              وأما الأصولية فنعني بها كون الإجماع حجة وكون القياس حجة وكون خبر الواحد حجة ، ومن جملته خلاف من جوز خلاف الإجماع المنبرم قبل انقضاء العصر وخلاف الإجماع الحاصل عن اجتهاد ومنع المصير إلى أحد قولي الصحابة والتابعين عند اتفاق الأمة بعدهم على القول الآخر ، ومن جملته اعتقاد كون المصيب واحدا في الظنيات ، فإن هذه مسائل أدلتها قطعية والمخالف فيها آثم مخطئ . وقد نبهنا على القطعيات والظنيات في أدراج الكلام في جملة الأصول .

              وأما الفقهية فالقطعية منها وجوب الصلوات الخمس والزكاة والحج والصوم وتحريم الزنا والقتل والسرقة والشرب ، وكل ما علم قطعا من دين الله فالحق فيها واحد وهو المعلوم والمخالف فيها آثم .

              ثم ينظر فإن أنكر ما علم ضرورة من مقصود الشارع كإنكار تحريم الخمر والسرقة ووجوب الصلاة والصوم فهو كافر ; لأن هذا الإنكار لا يصدر إلا عن مكذب بالشرع ، إن علم قطعا بطريق النظر لا بالضرورة ككون الإجماع حجة وكون القياس وخبر الواحد حجة وكذلك الفقهيات المعلومة بالإجماع فهي قطعية فمنكرها ليس بكافر لكنه آثم مخطئ . فإن قيل : كيف حكمتم بأن وجوب الصلاة والصوم ضروري ولا يعرف ذلك إلا بصدق الرسول ، وصدق الرسول نظري ؟ قلنا : نعني به أن إيجاب الشارع له معلوم تواترا أو ضرورة ، أما أن ما أوجبه فهو واجب فذلك نظري يعرف بالنظر في المعجزة المصدقة ومن ثبت عنده صدقه فلا بد أن يعترف به ، فإن أنكره فذلك لتكذيبه الشارع ، ومكذبه كافر فلذلك كفرناه به .

              أما ما عداه من الفقهيات الظنية التي ليس عليها دليل قاطع فهو في محل الاجتهاد ، فليس فيها عندنا حق معين ، ولا إثم على المجتهد إذا تمم اجتهاده وكان من أهله . فخرج من هذا أن النظريات قسمان : قطعية وظنية ، فالمخطئ في القطعيات آثم ولا إثم في الظنيات أصلا لا عند من قال : المصيب فيها واحد . ولا عند من قال : كل مجتهد مصيب ، هذا هو مذهب الجماهير .

              وقد ذهب بشر المريسي إلى إلحاق الفروع بالأصول وقال فيها حق واحد متعين والمخطئ آثم ، وقد ذهب الجاحظ والعنبري إلى إلحاق الأصول بالفروع ، وقال العنبري : كل مجتهد في [ ص: 349 ] الأصول أيضا مصيب وليس فيها حق متعين . وقال الجاحظ فيها : حق واحد متعين لكن المخطئ فيها معذور غير آثم كما في الفروع . فلنرسم في الرد على هؤلاء الثلاثة ثلاث مسائل :

              التالي السابق


              الخدمات العلمية