الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 132 ] 303 - باب بيان مشكل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيعه حرا لما لم يجد له مالا يقضي ذلك الدين عنه منه

1875 - حدثنا إبراهيم بن مرزوق ، قال : حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث التنوري ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار ، قال :

حدثني زيد بن أسلم ، قال لقيت رجلا بالإسكندرية يقال له : سرق فقلت له : ما هذا الاسم ، قال : سمانيه رسول الله صلى الله عليه وسلم دخلت - المدينة فأخبرتهم أنه يقدم لي مال فبايعوني فاستهلكت أموالهم فأتوا نبي الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : إنه سرق فبايعني بأربعة أبعرة فقال له غرماؤه ما تصنع به ، قال أعتقه قالوا : ما نحن بأزهد في الآخرة منك فأعتقوني .

[ ص: 133 ] قال أبو جعفر : وقد روى هذا الحديث مسلم بن خالد وأدخل في إسناده بين زيد بن أسلم وبين سرق عبد الرحمن بن البيلماني .

1876 - كما حدثنا إبراهيم بن أبي داود ، قال : حدثنا يحيى بن صالح الوحاظي ، قال : حدثنا مسلم بن خالد الزنجي ، عن زيد بن أسلم . [ ص: 134 ] عن عبد الرحمن بن البيلماني ، قال : كنت بمصر فقال لي رجل : ألا أدلك على رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : بلى ، فأشار إلى رجل ، فجئته فقلت من أنت يرحمك الله ؟ فقال أنا سرق فقلت : سبحان الله ما ينبغي أن تسمى بهذا الاسم وأنت رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سماني سرقا فلن أدع ذلك أبدا ، قلت : ولم سماك سرقا ، قال : لقيت رجلا من أهل البادية ببعيرين له يبيعهما فابتعتهما منه ، وقلت : انطلق معي حتى أعطيك فدخلت بيتي ثم خرجت من خلف لي ، وقضيت بثمن البعيرين حاجتي ، وتغيبت حتى ظننت أن الأعرابي قد خرج فخرجت والأعرابي مقيم فأخذني ، وقدمني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته الخبر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما حملك على ما صنعت فقلت : قضيت بثمنهما حاجتي يا رسول الله ، قال فاقضه ، قلت : ليس عندي ، قال : أنت سرق اذهب يا أعرابي فبعه حتى تستوفي حقك ، فجعل الناس يسومونه بي ، ويلتفت إليهم فيقول : ما تريدون فيقولون : نريد أن نبتاعه منك ، قال : فوالله إن منكم أحد أحوج إليه مني اذهب فقد أعتقتك .

[ ص: 135 ] قال أبو جعفر : فقال قائل فما يخلو ما رويتموه من هذا الحديث أن يكون ثابتا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يكون غير ثابت عنه ، فإن كان ثابتا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد تركتموه فلم تعملوا به وإن لم يكن ثابتا عنه فقد أضفتم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يكن ينبغي لكم إضافته إليه .

فكان جوابنا له في ذلك بتوفيق الله - عز وجل - وعونه أن الحكم الذي في هذا الحديث قد كان في أول الإسلام على ما في هذا الحديث وعمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كان في شريعة من كان قبله من الأنبياء - صلوات الله عليهم - وقد كان من شريعتهم أيضا مما يدخل في هذا المعنى ما قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مما كان من نبي الله الخضر صلى الله عليه وسلم في نفسه من إرفاقه إياها وتمليكه غيره لها ، إذ كان ذلك من الشريعة التي كانوا عليها حينئذ .

1877 - كما قد حدثنا أبو أمية ، قال : حدثنا سليمان بن عبيد الله الأنصاري الرقي ، قال: حدثنا بقية بن الوليد ، قال : حدثنا محمد بن زياد الألهاني ، [ ص: 136 ] عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم لأصحابه : ألا أحدثكم عن الخضر ، قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : بينا هو ذات يوم يمشي في سوق بني إسرائيل أبصره رجل مكاتب ، فقال : تصدق علي بارك الله فيك ، قال الخضر : آمنت بالله ما يريد الله عز وجل من أمر يكن ، ما عندي شيء أعطيكه ، فقال المسكين : أسألك بوجه الله عز وجل لما تصدقت علي ، إني نظرت إلى سيماء الخير في وجهك ، ورجوت البركة عندك ، قال الخضر : آمنت بالله ما عندي شيء أعطيكه إلا أن تأخذني فتبيعني ، فقال المسكين : وهل يستقيم هذا ؟ قال : نعم ، الحق أقول لك ، لقد سألتني بأمر عظيم ، أما إني ما أخيبك بوجه ربي فبعني فقدمه إلى السوق فباعه بأربع مائة درهم ، فمكث عند المشتري زمانا لا يستعمله في شيء ، فقال الخضر : أما إنك إنما ابتعتني ابتغاء خيري ، فأوصني بعمل ، فقال : أكره أن أشق عليك إنك شيخ كبير ، قال : ليس يشق علي ، قال : فقم فانقل هذه الحجارة ، وكان لا ينقلها دون ستة نفر في يوم ، فخرج الرجل ليقضي حاجته ، ثم انصرف وقد نقل الحجارة في ساعته ، فقال له : أحسنت وأجملت ، وأطقت ما لم أرك تطيقه ثم عرض للرجل سفر ، فقال : إني أحسبك أمينا فاخلفني في أهلي خلافة حسنة ، قال : أوصني بعمل ، قال إني أكره أن أشق عليك ، قال : ليس يشق علي ، قال فاضرب من اللبن حتى أقدم عليك فمضى الرجل لسفره فرجع [ ص: 137 ] الرجل وقد شيد بناءه ، فقال الرجل : أسألك بوجه الله عز وجل ما جنسك ؟ وما أمرك ؟ ، قال سألتني بوجه الله عز وجل [والسؤال بوجه] الله عز وجل أوقعني في العبودية ، فقال : سأخبرك من أنا ؟ أنا الخضر الذي سمعت به ، سألني مسكين صدقة فلم يكن عندي شيء أعطيه ، سألني بوجه الله فأمكنته من رقبتي ، فباعني ، وأخبرك [أنه] من سئل بوجه الله فرد سائله وهو يقدر وقف يوم القيامة وليس لوجهه جلد ولا لحم ولا دم ولا عظم يتقعقع ، قال : آمنت بذلك ، شققت عليك يا رسول الله ، احكم في أهلي ومالي بما أراك الله عز وجل ، أو أخيرك فأخلي سبيلك ، قال : أحب أن تخلي سبيلي فأعبد الله عز وجل فخلى سبيله ، فقال الخضر : الحمد لله الذي أوقعني في العبودية ونجاني منها .

[ ص: 138 ] قال أبو جعفر : ولما كان من شريعة من قبل هذه الأمة من الأمم إرقاق أنفسهم وتمليكها غيرهم وكان ذلك مما يكون منهم تقربا إلى ربهم عز وجل ، كان استرقاقهم بالديون التي عليهم التي قد يكون أخذهم إياها من أموال غيرهم طاعة ، فقد يكون معصية أخرى أن يكون مستعملا فيهم ، ومحكوما به عليهم ، فكان ذلك كذلك حتى دخل الإسلام ، فاستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ كان من شريعته اتباع شرائع النبيين الذين كانوا قبله صلوات الله عليهم حتى يحدث الله عز وجل في شريعته ما ينسخ ذلك ، كما قال الله عز وجل في كتابه : أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ، فلم يزل كذلك حتى أنزل الله عز وجل عليه ما نسخ به ذلك الحكم ، وهو قوله عز وجل في آية الربا : وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ، فعاد الحكم إلى أخذ الديون لمن هي له ممن هي عليه ، إذ كانت موجودة عنده ، وإمهاله بها إذ كانت معدومة عنده . حتى يوجد عنده فيؤخذ منه [ ص: 139 ] فيدفع قضاء عنه إلى من هي له عليه فكان في ذلك نسخ إرقاق الأحرار أنفسهم وتمليكهم إياها سواهم حتى يعودوا بذلك مملوكين لمن ملكوها إياه ، وبين الله عز وجل ذلك على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتواعد من فعله وعيدا شديدا .

1878 - كما قد حدثنا يحيى بن عثمان ، قال : حدثنا نعيم بن حماد ، قال : حدثنا يحيى بن سليم ، عن إسماعيل بن أمية ، عن سعيد بن أبي سعيد ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة ، ومن كنت خصمه خصمته : رجل أعطى بي ثم غدر ، ورجل باع حرا فأكل ثمنه ، ورجل استأجر أجيرا فاستوفى منه ولم يوفه أجره .

[ ص: 140 ] قال أبو جعفر : فكان في ذلك تحريم أثمان الأحرار على الوجوه كلها ، وكان فيما ذكرنا إقامة الحجة لنا في تركنا ما رويناه في أول هذا الباب من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رويناه فيه إلى ما نسخه الله في كتابه مما أنزله فيه مما تلونا على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما روينا والله نسأله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية