الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                          صفحة جزء
                                                          ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم [ ص: 1343 ] يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون بعد أن أمر سبحانه وتعالى بالاعتصام بحبل الله تعالى؛ والاستمساك بالقرآن الكريم، وال التفاف حوله، وعدم التفرق والانقسام - بين سبحانه وتعالى السبيل لهذا الاعتصام، والطريق للوحدة الفاضلة، التي لا تفرق فيها، ولا اختلاف يفك عراها، ويهدم بنيانها، وذلك السبيل هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولذلك فرضه سبحانه وتعالى بقوله تقدست كلماته:

                                                          ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر المعروف هو الأمر الذي تعارفته العقول ولم تختلف فيه الأفهام؛ وهو الذي يكون متفقا مع الفطرة الإنسانية التي لا تختلف في الناس، والمنكر هو ما تضافرت العقول الإنسانية على إنكاره وقبحه، وهو مناقض للفطرة الإنسانية. وإن العقول من بدء الخليقة تضافرت على أمور أقرتها، وعلى أخرى أنكرتها، فلم تختلف العقول في مدح الصدق والعدل والحياء والعفة، ولم تختلف العقول في استنكار الظلم والكذب والفجور والاعتداء بكل ضروبه، ومهما يحاول الذين يريدون حل المجتمعات الفاضلة وهدم بنيانها، من إنكار لتلك الحقائق، وادعاء أنها ليست مقومات الإنسانية، وأنها اتفاقات زمنية، وأوهام سيطرت على العقول - فلن يصلوا إلى غاياتهم، وإن ادعوا أن ما يقولونه هو طبيعة الوجود، ولذا سموا أنفسهم وجوديين؛ وذلك لأن كلامهم ضد طبائع النفوس، وضد السمو الإنساني عن الطبيعة الحيوانية، وضد الفطرة التي فطر الله الناس عليها، وإن الأعرابي الذي سئل: لماذا آمنت بمحمد؛ فقال: ما رأيت محمدا يقول في أمر: افعل، والعقل يقول لا تفعل، وما رأيت محمدا يقول في أمر: لا تفعل، والعقل يقول افعل - أكبر إدراكا من هؤلاء المتفلسفة، وأكثر اتصالا بطبائع الوجود الإنساني منهم، وهم [ ص: 1344 ] في حقيقة أمرهم وتفكيرهم أكثر اتصالا بالطبائع البهيمية منهم بالطبائع الإنسانية.

                                                          و " من " في قوله تعالى: ولتكن منكم أمة قيل: إنها بيانية، وقيل. إنها تبعيضية، وهي تحتملهما معا، وعلى أنها بيانية يكون المعنى أن الأمة كلها عليها واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويكون التخريج اللفظي لقوله تعالى تقدست كلماته: ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف مثل قول القائل: ليكن منك رجل خير، أو ليكن منك رجل جهاد، أي: ليكن منك رجل خير ورجل جهاد، فالمعنى الجملي للنص الكريم: ولتكونوا أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وإذا كان ذلك الواجب على الأمة كلها، فهو يتفاوت بتفاوت مقدار ما أوتيه كل واحد من العلم والقوة، فعلى أولياء الأمر أن يرتبوا أمر الدعوة الإسلامية، وبيان الحقائق، ووضع النظم الزاجرة المانعة من الشر، أن يتفاقم أمره، ويشتد سيله، ويكون على العلماء واجب بيان الشرع في دروس عامة وخاصة، وبيان الحق في كل أمر يجد في شئون الناس، وبيان طرق الدعوة إلى سبيل الله، ويكون على العامة كل في محيط وجوده وبمقدار طاقته أن يرشد وأن ينصح، فمن رأى رجلا يرفث في القول، أو يجرح كرامات الناس، أرشده ونهاه، ومن رأى رجلا يفطر في رمضان وعظه وهداه، ومن رأى رجلا لا يصلي حثه على الصلاة، على أن يكون ذلك برقيق القول، لا بالجفوة والعنف؛ فإن الجفوة لا تجدي بل تبعد، والمودة تجدي وتقرب، وبهذا تكون الأمة كلها تتواصى بالحق، وتتواصى بالصبر والهداية.

                                                          هذا سياق القول على أن " من " بيانية، وأما سياقه على أنها تبعيضية، فيكون المعنى: ليكن بعض منكم أمة أي: طائفة تؤم وتقصد وتكون مجابة الدعوة، إذ تدعو إلى الخير أي: إلى كل ما هو نافع في ذاته، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وعلى ذلك يكون في الآية الكريمة طلبان: [ ص: 1345 ] أحدهما موجه إلى الأمة كلها، وهو إعداد هذه الطائفة التي تقوم بالإرشاد العام والتوجيه الفكري والنفسي، وتزويدها بكل ما يمكنها من أداء مهمتها، والقيام بالواجب عليها على الوجه الأكمل، وثاني الواجبين هو واجب هذه الطائفة التي تكونت، والوجوب عليها أخص من الوجوب الأول، وكذلك الشأن في كل الفروض الكفائية، فيها وجوبان: وجوب خاص على من عندهم الأهلية الخاصة للواجب الكفائي، ووجوب عام على الأمة كلها، وهو تمكين هؤلاء الخاصة من القيام بواجبهم وتزويدهم بما يحتاجون إليه.

                                                          وقد رجح الزمخشري أن تكون " من " تبعيضية، وقال في ذلك " من " للتبعيض؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من فروض الكفايات؛ ولأنه لا يصلح له إلا من علم المعروف والمنكر، وعلم كيف يرتب الأمر في إقامته، وكيف يباشره، فإن الجاهل ربما نهى عن معروف، وأمر بمنكر، وربما عرف الحكم في مذهبه، وجهله في مذهب صاحبه، فنهاه عن غير منكر، وقد يغلظ في موضع اللين، ويلين في موضع الغلظة، وينكر على من لا يزيده إنكاره إلا تماديا، أو على من الإنكار إليه عبث، كالإنكار على الجلادين وأضرابهم.

                                                          والأمة التي تقصد وتكون من صفوة الأمة لها عملان متمايزان بنص الآية؛ أحدهما: الدعوة إلى الخير، وثانيهما: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. أما الأول فهو توجيه الأمة إلى النفع العام، فالخير هو كل أمر نافع في الدنيا أو في الآخرة، كتنظيم الاقتصاد، وترتيب العمران، وتنظيم حقوق الفقراء، وربط العلاقة بين الأغنياء والفقراء بوثائق من الدين والنصوص المحكمة التي لا تقبل التخلف، وإنشاء المساجد ودور التعلم وتوجيهها التوجيه السليم، فكل هذا دعوة إلى الخير، وبعبارة عامة شاملة الدعوة إلى الخير تشتمل على كل ما يقوم عليه بناء الاجتماع من الناحية المادية والأدبية.

                                                          أما الثاني وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فالمراد به نشر الفكر الإسلامي، وبيان الحقائق الدينية، وتوجيه النفوس إليها وجذبهم نحوها، ودفع كل ما ليس بإسلامي، وإقامة الحق والعدل، وهو مقام سام لا يصل إليه إلا ذوو [ ص: 1346 ] الهمة والتقى من الرجال، وهو شاق إن أدي على وجهه، بحيث يرشد الحاكم والمحكوم، والقوي والضعيف، لا يخشى في الله لومة لائم، لا يجمجم إذا كان المنكر من قوي ظالم، ويغلظ ويعنف إن كان المنكر ممن لا يخشى بطشه ولا يرجى عطاؤه، ولا يتأول لتصرفات من يخاف شره ويطمع في خيره.

                                                          فإن كان المرشد على ذلك النحو فقد سار في طريق النبيين، ولقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله في الأرض، وخليفة كتابه، وخليفة رسوله " وهو بهذا الاعتبار خير الناس، ومعنى خلافته عن الله تعالى أن يكون مصلحا في الأرض غير مفسد فيها، ولذا قال تعالى عند خلق آدم للملائكة: إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء فخلافة الله في الأرض تقتضي الصلاح والدعوة إليه، وذلك ما يقوم به الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، ولقد سئل عليه الصلاة والسلام وهو على المنبر: من خير الناس؛ قال: " آمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأتقاهم وأوصلهم " . ولقد قال أبو الدرداء : " لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم سلطانا ظالما، لا يجل كبيركم، ولا يرحم صغيركم، ويدعو عليه خياركم فلا يستجاب لهم، وينتصرون فلا ينصرون، ويستغفرون فلا يغفر لهم " .

                                                          وإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مراتب، تعلو كل مرتبة عن الأخرى بمقدار ما يكون فيها من مشقة وتعرض للعنت مع الجدوى والفائدة، ولذا كان أعلاه ما يوجه إلى الجائرين من الحكام والأمراء؛ ولذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر " . وبذلك اعتبر النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه المرتبة جهادا، [ ص: 1347 ] واعتبر من يقتل في سبيلها شهيدا، كمن يقتل في الحرب، بل اعتبره في أعلى درجات الشهداء، فقد قال عليه الصلاة والسلام: " سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ، ثم رجل قام إلى إمام فأمره ونهاه في ذات الله تعالى فقتله على ذلك " .

                                                          وإن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وخصوصا للأمراء والحكام هو الذي أضاع المسلمين في الماضي، وأضاع بني إسرائيل قبلهم، ولقد روى في ذلك أحمد والترمذي وأبو داود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أن الرجل كان يلقى الرجل، فيقول: يا هذا اتق الله، ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض. كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطرا، أو ليضربن بقلوب بعضكم على بعض ثم يلعنكم كما لعنهم " .

                                                          وإن القيام بحق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يؤدي إلى الفلاح في الدنيا والآخرة، ولذا ذيل سبحانه وتعالى الآية بقوله تعالى: " وأولئك هم المفلحون " أي: أولئك الذين قاموا بهذا الواجب هم المفلحون، ولا يمكن أن يفلح سواهم ممن لم يقم بهذا الواجب، ففي النص قصر، أي: نفي وإثبات، فهو يثبت الفلاح لهم، وينفي الفلاح عن غيرهم ممن لم يقم بهذا الواجب المقدس، فهو مناط عزة الأمة ورفعتها وقوتها وتقدمها، ونشر العدل والحق والإيمان في ربوعها، والإشارة هنا إلى الأمة كلها سواء اعتبرنا " من " [ ص: 1348 ] بمعنى " بعض " ؛ أم اعتبرناها بيانية، وإذا كانت بيانية فالأمر ظاهر لا يحتاج إلى بيان؛ لأن الأمة هي في جملتها الآمرة بالمعروف الناهية عن المنكر الداعية إلى الخير، وأما على أن الأمة التي تدعو إلى الخير وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر هي طائفة معينة من مجموع المؤمنين، فإن النتيجة من حيث الفوز والفلاح لا يعود على الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر وحدهم، بل الفائدة تعود عليهم أجمعين، إذ إن ضرر الترك يعود عليهم أجمعين، وإنه لا نجاة للأمة إلاإذا تواصوا بالحق وتواصوا بالصبر، وتواصوا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد ضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - مثلا لترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بقوم يركبون سفينة، ووجدوا واحدا يخرق السفينة، فإن تركوه غرق وغرقوا معه، وإن أخذوا على يده نجا ونجوا معه .

                                                          التالي السابق


                                                          الخدمات العلمية