الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 510 ] القول في تأويل قوله تعالى : ( وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا ( 76 ) )

يقول عز وجل : وإن كاد هؤلاء القوم ليستفزونك من الأرض : يقول : ليستخفونك من الأرض التي أنت بها ليخرجوك منها ( وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا ) يقول : ولو أخرجوك منها لم يلبثوا بعدك فيها إلا قليلا حتى أهلكهم بعذاب عاجل .

واختلف أهل التأويل في الذين كادوا أن يستفزوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرجوه من الأرض وفي الأرض التي أرادوا أن يخرجوه منها ، فقال بعضهم : الذين كادوا أن يستفزوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك اليهود ، والأرض التي أرادوا أن يخرجوه منها المدينة .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا المعتمر بن سليمان ، عن أبيه ، قال : زعم حضرمي أنه بلغه أن بعض اليهود قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إن أرض الأنبياء أرض الشام ، وإن هذه ليست بأرض الأنبياء ، فأنزل الله ( وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها ) .

وقال آخرون : بل كان القوم الذين فعلوا ذلك قريشا ، والأرض مكة .

ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله ( وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا ) وقد هم أهل مكة بإخراج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة ، ولو فعلوا ذلك لما توطنوا ، ولكن الله كفهم عن إخراجه حتى أمره ، ولقلما مع ذلك لبثوا بعد خروج نبي الله صلى الله عليه وسلم من مكة حتى بعث الله عليهم القتل يوم بدر .

حدثني محمد بن عبد الأعلى ، قال : ثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ( ليستفزونك من الأرض ) قال : قد فعلوا بعد ذلك ، فأهلكهم الله يوم بدر ، ولم يلبثوا بعده إلا قليلا حتى أهلكهم الله يوم بدر . وكذلك كانت سنة الله في الرسل إذا فعل بهم قومهم مثل ذلك . [ ص: 511 ]

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ( خلافك إلا قليلا ) قال : لو أخرجت قريش محمدا لعذبوا بذلك .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .

وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب ، قول قتادة ومجاهد ، وذلك أن قوله ( وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ) في سياق خبر الله عز وجل عن قريش وذكره إياهم ، ولم يجر لليهود قبل ذلك ذكر ، فيوجه قوله ( وإن كادوا ) إلى أنه خبر عنهم ، فهو بأن يكون خبرا عمن جرى له ذكر أولى من غيره . وأما القليل الذي استثناه الله جل ذكره في قوله ( وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا ) فإنه فيما قيل ، ما بين خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى أن قتل الله من قتل من مشركيهم ببدر .

ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله ( وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا ) يعني بالقليل يوم أخذهم ببدر ، فكان ذلك هو القليل الذي لبثوا بعد .

حدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : ثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله ( وإذا لا يلبثون خلفك إلا قليلا ) كان القليل الذي لبثوا بعد خروج النبي من بين أظهرهم إلى بدر ، فأخذهم بالعذاب يوم بدر .

وعني بقوله خلافك بعدك ، كما قال الشاعر :


عقب الرذاذ خلافها فكأنما بسط الشواطب بينهن حصيرا

[ ص: 512 ]

يعني بقوله : خلافها : بعدها . وقد حكي عن بعضهم أنه كان يقرؤها : خلفك . ومعنى ذلك ، ومعنى الخلاف في هذا الموضع واحد .

التالي السابق


الخدمات العلمية