الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                              كتاب أحكام الأباق

                                                                                                                                                                              جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : "والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه" .

                                                                                                                                                                              8694 - حدثنا محمد بن مهل ، قال : حدثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن محمد بن واسع ، عن أبي صالح ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من كشف عن مسلم كربة من كرب الدنيا كشف الله عنه كربة من كرب يوم القيامة ، والله في عون العبد ما كان العبد في حاجة أخيه" .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : فمن [معونة] الرجل أخاه المسلم : حفظه عليه [عبيده الأباق] ، وما خاف أن يضيع من سائر أمواله ، لأن يؤديه إلى صاحبه ، [ ص: 446 ] وإذا فعل ذلك فهو محسن غير متعد ولا خائن ، وذلك من جملة ما شرطه النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه حيث بايعوه ، النصيحة لكل مسلم .

                                                                                                                                                                              8695 - حدثنا أبو أحمد محمد بن عبد الوهاب ، قال : أخبرنا جعفر بن عون ، قال : حدثنا مسعر ، عن زياد بن علاقة ، قال : سمعت جريرا يقول : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم لأبايعه فاشترط علي النصح لكل مسلم ، وإني لكم لناصح .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : فمن نصيحة المرء لأخيه المسلم حفظه ماله ، وحياطته حتى يؤديه إلى صاحبه ، وإذا كان ذلك واجبا ، فغير جائز أن يأخذ على ملك عليه جعلا يلزمه صاحب المال .

                                                                                                                                                                              وقد اختلف في هذا الباب .

                                                                                                                                                                              فقالت طائفة : إذا أخذ الرجل عبدا آبقا فلا شيء له فيه كان الآخذ ممن يعرف بأخذ الأباق أو لم يكن معروفا بذلك . كان النخعي يقول : المسلم يرد على المسلم . وقال مالك : الذي يأخذ الآبق لا أرى له شيئا إلا ما أنفق عليه من ركوب أو غيره . [وقد] كان مالك يفرق بين الذي يعرف بأخذ الأباق وبين من لا يعرف بذلك . وقال الشافعي : ولا جعل لمن جاء بالآبق ولا الضالة إلا أن يجعل له ، وسواء من [ ص: 447 ] عرف بطلب الضوال ومن لا يعرف به . وقال الحسن بن صالح في الآبق يأخذه الرجل في المصر أو خارجا من المصر قال [المسلم] يرد على المسلم ، وليس له جعل إلا أن يستأجره بطلب له . وحكي هذا القول عن النخعي والحكم ، وسئل أحمد عن جعل الآبق في المصر وخارجا من المصر قال : لا أدري ، شيء قد تكلم الناس ولم يكن عنده حديث صحيح .

                                                                                                                                                                              وقالت طائفة : يعطى في كل رأس أربعين درهما . روي هذا القول عن عبد الله بن مسعود . وقال أبو إسحاق : أعطيت الجعل في زمن معاوية أربعين درهما .

                                                                                                                                                                              8696 - حدثنا علي بن الحسن ، قال : حدثنا عبد الله بن الوليد العدني ، عن سفيان ، عن أبي رباح . وحدثنا علي بن عبد العزيز ، حدثنا أبو نعيم ، قال : حدثنا سفيان ، عن أبي رباح ، عن أبي عمرو الشيباني ، قال : أصبت غلمانا أباقا بالغين ، فأتيت عبد الله بن مسعود فذكرت ذلك له فقال : الأجر والغنيمة . قال : قلت هذا الأجر ، فما الغنيمة ؟ قال : أربعون درهما من كل رأس . واللفظ للعدني .

                                                                                                                                                                              8697 - حدثنا موسى ، قال : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال : حدثنا وكيع ، قال حدثنا سفيان ، عن أبي إسحاق ، قال : أعطيت الجعل في زمن معاوية أربعين درهما . [ ص: 448 ]

                                                                                                                                                                              وفيه قول ثالث : وهو أن يعطى إذا أخذ في المصر عشرة دراهم ، وإذا أخذ خارجا فأربعين . هذا قول شريح ، وروي هذا القول عن الشعبي قال : يقضي القضاة بذلك .

                                                                                                                                                                              وقال إسحاق بن راهويه : السنة في ذلك ما قال ابن مسعود : إذا كان خارجا من المصر فأربعون ، وفي المصر عشرة .

                                                                                                                                                                              وفيه قول رابع عن عمر بن الخطاب : أنه جعل في جعل الآبق عشرة دراهم أو دينارا ، وروينا ذلك عن علي .

                                                                                                                                                                              8698 - حدثنا موسى ، عن محمد بن يزيد ، عن أيوب أبي العلاء ، عن قتادة وأبي هاشم أن عمر جعل في الآبق أربعين درهما إذا أصيب في غير مصر ، فإذا أصيب في المصر فعشرين درهما أو عشرة .

                                                                                                                                                                              8699 - حدثنا موسى ، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا زيد بن هارون ، عن حجاج ، عن عمرو بن شعيب ، عن سعيد بن المسيب ، أن عمر جعل في الآبق دينارا ، أو اثني عشر درهما .

                                                                                                                                                                              8700 - حدثنا موسى ، قال : حدثنا أبو بكر ، حدثنا يزيد ، عن حجاج ، عن حصين عن الشعبي ، عن الحارث ، عن علي مثله . [ ص: 449 ]

                                                                                                                                                                              وذكر ابن أبي مليكة وعمرو بن دينار أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل في العبد الآبق إذا جيء [به] خارجا من الحرم دينارا .

                                                                                                                                                                              وفيه قول خامس : وهو أنه إذا وجد على مسيرة ثلاث ، ثلاثة دنانير .

                                                                                                                                                                              هذا قول عمر بن عبد العزيز .

                                                                                                                                                                              وفيه قول سادس : قاله أصحاب الرأي ، قالوا : إذا أخذه خارجا من المصر أو في المصر فإنا نستحسن أن يجعل له على قدر المكان الذي أخذه فيه ، إلا أن يكون أخذه على مسيرة ثلاثة أيام فصاعدا ، فإذا كان كذلك جعلنا له أربعين درهما كلها .

                                                                                                                                                                              وقد كان الأوزاعي يقول في جعل الآبق : كانت قضاتنا يقضون به ، وقضى به شريح . وأن يرده على أخيه أحب إلي ، الوليد بن مسلم عنه .

                                                                                                                                                                              وحكى عنه الوليد بن يزيد أنه قال كذلك ، وقال : أحب إلي أن يرده الرجل على أخيه المسلم .

                                                                                                                                                                              وقد روينا عن [عبد الله] بن عتبة غير ذلك .

                                                                                                                                                                              8701 - قال مسعر ، عن عبد الكريم : لقيت عبد الله بن عتبة فقلت : أيجتعل في العبد ؟ قال : نعم .

                                                                                                                                                                              وكان مالك يقول في ذلك قولا سابعا ، قال مالك : [أما من كان ذلك [ ص: 450 ] شأنه ، وهو عمله ، فأرى أن يجعل له . قال مالك] : وعندنا قوم هذا شأنهم ، وفي هذا منافع للناس ، فأما من لم يكن ذلك شأنه وإنما وجده فأخذه فإنما له فيه نفقته ولا جعل له .

                                                                                                                                                                              وروينا عن النخعي أنه قال : لا بأس بجعل الآبق .

                                                                                                                                                                              وحكي عن عبيد الله بن الحسن أنه قال : في جعل الآبق أخير عن التوقيت ولا أرد فيه الأثر عن ابن مسعود . وكان مالك والشافعي يقولان : إذا قال : من جاء بعبدي الآبق فله دينار فجاء به أن الدينار لازم له . وقال مالك : ولو قال : من جاء بغلامي فله دينار ، ثم بدا له بعد ذلك فقال : اشهدوا أني قد رجعت في الجعل . قال : ليس ذلك له ، ولو كان ذلك له كان الرجل يخرج فإذا أخذ العبد ثم سمع به سيده رجع ، فليس له ذلك .

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : له أن يرجع ما لم يؤخذ العبد ، فإن أخذ العبد وجيء به لزمه الدينار . وكان الشافعي يقول : ولو قال الرجل : إن جئتني بعبدي فلك كذا ولآخر مثل ذلك ولثالث مثل ذلك فجاؤوا به جميعا ، فلكل واحد ثلث ما جعل له ، اتفقت الأجعال أم اختلفت . [ ص: 451 ]

                                                                                                                                                                              قال أبو بكر : إذا أخذ الرجل عبدا آبقا فجاء به إلى مولاه وجب عليه تسليمه إليه ، وليس له أن يلزمه جعلا لم يكن جعله له على أخذه ، وذلك أنه متطوع بأخذه غير مأمور بأن يفعل ذلك ، وإلزام رب العبد ذلك إلزام فرض ، والفرض لا يجوز إيجابه إلا بحجة من كتاب أو سنة أو إجماع .

                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية