الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئا فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرا أو كبيرا إلى أجله ذلكم أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى ألا ترتابوا إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألا تكتبوها وأشهدوا إذا تبايعتم ولا يضار كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم [ ص: 336 ] قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين قال الزجاج: يقال: داينت الرجل إذا عاملته ، فأخذت منه بدين ، وأعطيته .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الشاعر:


                                                                                                                                                                                                                                      داينت أروى والديون تقضى فماطلت بعضا وأدت بعضا



                                                                                                                                                                                                                                      والمعنى: إذا كان لبعضكم على بعض دين إلى أجل مسمى ، فاكتبوه ، فأمر الله تعالى بكتابة الدين ، وبالإشهاد ، حفظا منه للأموال ، وللناس من الظلم ، لأن من كانت عليه البينة ، قل تحديثه لنفسه بالطمع في إذهابه . وقال ابن عباس: نزلت هذه الآية في السلم خاصة . فإن قيل: ما الفائدة في قوله "بدين" و"تداينتم" يكفي عنه؟ فالجواب: أن تداينتم يقع على معنيين . أحدهما: المشاراة والمبايعة والإقراض . والثاني: المجازاة بالأفعال ، فالأول يقال فيه: الدين بفتح الدال ، والثاني: يقال منه: الدين بكسر الدال . قال تعالى: يسألون أيان يوم الدين [ الذاريات: 12 ] أي: يوم الجزاء .

                                                                                                                                                                                                                                      وأنشدوا:


                                                                                                                                                                                                                                      دناهم كما دانوا



                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 337 ] فدل قوله "بدين" على المراد بقوله "تداينتم" ذكره ابن الأنباري . فأما العدل فهو الحق . قال قتادة: لا تدعن حقا ، ولا تزيدن باطلا .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: (ولا يأب كاتب) أي: يمتنع أن يكتب كما علمه الله ، وفيه قولان . أحدهما: كما علمه الله الكتابة ، قاله سعيد بن جبير . وقال الشعبي: الكتابة فرض على الكفاية كالجهاد . والثاني: كما أمره الله به الحق ، قاله الزجاج . قوله تعالى: وليملل الذي عليه الحق قال سعيد بن جبير : يعني المطلوب ، يقول: ليمل ما عليه من حق الطالب على الكاتب ، (ولا يبخس منه شيئا) أي: لا ينقص عند الإملاء . قال شيخنا أبو منصور اللغوي: يقال: أمللت أمل ، وأمليت أملي لغتان ، فأمليت من الإملاء وأمللت من الملل والملال ، لأن الممل يطيل قوله على الكاتب ويكرره .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: فإن كان الذي عليه الحق سفيها في المراد بالسفيه هاهنا أربعة أقوال . أحدها: أنه الجاهل بالأموال ، والجاهل بالإملاء . قاله مجاهد ، وابن جبير . والثاني: أنه الصبي والمرأة ، قاله الحسن . والثالث: أنه الصغير ، قاله الضحاك ، والسدي . والرابع: أنه المبذر ، قاله القاضي أبو يعلى . وفي المراد بالضعيف ثلاثة أقوال . أحدها: أنه العاجز والأخرس ، ومن به حمق ، قاله ابن عباس ، وابن جبير . والثاني: أنه الأحمق ، قاله مجاهد ، والسدي . والثالث: أنه الصغير قاله القاضي أبو يعلى .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: أو لا يستطيع أن يمل هو قاله ابن عباس: لا يستطيع لعيه . وقال ابن جبير: لا يحسن أن يمل ما عليه ، وقال القاضي أبو يعلى: هو المجنون .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: (فليملل وليه) في هاء الكناية قولان . أحدها: أنها تعود إلى الحق ، فتقديره: فليملل ولي الحق ، هذا قول ابن عباس ، وابن جبير ، والربيع بن أنس ، ومقاتل ، [ ص: 338 ] واختاره ابن قتيبة . والثاني: أنها تعود إلى الذي عليه الحق ، وهذا قول الضحاك ، وابن زيد ، واختاره الزجاج ، وعاب قول الأولين ، فقال: كيف يقبل قول المدعي؟! وما حاجته إلى الكتاب والإشهاد ، والقول قوله؟! وهذا اختيار القاضي أبي يعلى أيضا . والعدل: الإنصاف . وقي قوله تعالى: (من رجالكم) قولان . أحدهما: أنه يعني الأحرار ، قاله مجاهد ، والثاني: أهل الإسلام ، وهذا اختيار الزجاج ، والقاضي أبي يعلى ، ويدل عليه أنه خاطب المؤمنين في أول الآية .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: (فإن لم يكونا رجلين) أراد: فإن لم يكن الشهيدان رجلين (فرجل وامرأتان) ولم يرد به: إن لم يوجد رجلان .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: (ممن ترضون من الشهداء) قال ابن عباس: من أهل الفضل والدين . قوله تعالى: أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ذكر الزجاج ، أن الخليل ، وسيبويه ، وسائر النحويين الموثوق بعلمهم ، قالوا: معناه: استشهدوا امرأتين ، لأن تذكر إحداهما الأخرى . ومن أجل أن تذكر إحداهما الأخرى . وقرأ حمزة "إن تضل" بكسر الألف . والضلال هاهنا: النسيان ، قاله ابن عباس والضحاك ، والسدي ، والربيع ، ومقاتل ، وأبو عبيدة ، وابن قتيبة . وأما قوله: "فتذكر" فقرأ ابن كثير ، وأبو عمرو ، بالتخفيف مع نصب الراء ، وقرأ حمزة بالرفع مع تشديد الكاف ، وقرأ الباقون بالنصب ، وتشديد الكاف ، فمن شدد أراد الإدكار عند النسيان ، وفي قراءة من خفف قولان . أحدهما: أنها بمعنى المشددة أيضا ، وهذا قول الجمهور . قال الضحاك ، والربيع بن أنس ، والسدي: ومعنى القراءتين واحد . والثاني: أنها بمعنى: تجعل شهادتهما بمنزلة شهادة ذكر ، وهذا مذهب سفيان بن عيينة ، وحكى الأصمعي عن أبي عمرو نحوه ، واختاره القاضي أبو يعلى ، وقد رده جماعة ، منهم ابن قتيبة . قال أبو علي: ليس مذهب ابن عيينة بالقوي ، لأنهن لو بلغن ما بلغن ، لم تجز شهادتهن إلا أن يكون معهن رجل ، ولأن الضلال هاهنا: النسيان ، فينبغي أن يقابل بما يعادله ، وهو التذكير .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 339 ] قوله تعالى: ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا قال قتادة: كان الرجل يطوف في الحواء العظيم ، [فيه القوم فيدعوهم إلى الشهادة ] فلا يتبعه منهم أحد ، فنزلت هذه الآية . وإلى ماذا يكون هذا الدعاء؟ فيه ثلاثة أقوال . أحدها: إلى تحمل الشهادة ، وإثباتها في الكتاب ، قاله ابن عباس ، وعطية ، وقتادة ، والربيع . والثاني: إلى إقامتها وأدائها عند الحكام بعد أن تقدمت شهادتهم بها ، قاله سعيد بن جبير ، وطاووس ، ومجاهد ، وعكرمة ، وعطاء ، والشعبي ، وأبو مجلز ، والضحاك ، وابن زيد . ورواه الميموني عن أحمد بن حنبل . والثالث: إلى تحملها وإلى أدائها ، روي عن ابن عباس ، والحسن ، واختاره الزجاج ، قال القاضي أبو يعلى: إنما يلزم الشاهد أن لا يأبى إذا دعي لإقامة الشهادة إذا لم يوجد من يشهد غيره ، فأما إن كان قد تحملها جماعة ، لم تتعين عليه ، وكذلك في حال تحملها ، لأنه فرض على الكفاية كالجهاد ، فلا يجوز لجميع الناس الامتناع منه .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: (ولا تسأموا) أي: لا تملوا وتضجروا أن تكتبوا القليل والكثير الذي قد جرت العادة بتأجيله إلى أجله ، أي: إلى محل أجله (ذلكم أقسط عند الله) أي: أعدل ، (وأقوم للشهادة) لأن الكتاب يذكر الشهود جميع ما شهدوا عليه (وأدنى) أي: أقرب (ألا ترتابوا) أي: لا تشكوا (إلا أن تكون) الأموال (تجارة) أي: إلا أن تقع تجارة . وقرأ عاصم "تجارة" بالنصب على معنى: إلا أن تكون الأموال تجارة حاضرة ، وهي البيوع التي يستحق كل واحد منهما على صاحبه تسليم ما عقد عليه من جهته بلا تأجيل ، فأباح ترك الكتاب فيها توسعة ، لئلا يضيق عليهم أمر تبايعهم في مأكول أو مشروب .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: وأشهدوا إذا تبايعتم الإشهاد مندوب إليه فيما جرت العادة بالإشهاد عليه .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 340 ] فصل

                                                                                                                                                                                                                                      وهذه الآية تتضمن الأمر بإثبات الدين في كتاب ، وإثبات شهادة في البيع والدين . واختلف العلماء ، هل هذا أمر وجوب ، أم على وجه الاستحباب؟ فذهب الجمهور إلى أنه أمر ندب واستحباب فعلى هذا هو محكم ، وذهبت طائفة إلى أن الكتاب والإشهاد واجبان ، روي عن ابن عمر ، وأبي موسى ، ومجاهد ، وابن سيرين ، وعطاء ، والضحاك ، وأبي قلابة ، والحكم ، وابن زيد . ثم اختلف هؤلاء ، هل هذا الحكم باق ، أم منسوخ؟ فذهب أكثرهم إلى أنه محكم غير منسوخ ، وذهبت طائفة إلى أنه منسوخ بقوله تعالى: فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: ولا يضار كاتب ولا شهيد قرأ أبو جعفر بتخفيف الراء من "يضار" وسكونها . وفي معنى الكلام ثلاثة أقوال . أحدها: أن معناه لا يضار بأن يدعي وهو [ ص: 341 ] مشغول ، هذا قول ابن عباس ، ومجاهد ، وعكرمة ، والسدي ، والربيع بن أنس ، والفراء ، ومقاتل . وقال الربيع: كان أحدهم يجيء إلى الكاتب فيقول: اكتب لي ، فيقول: إني مشغول ، فيلزمه ، ويقول: إنك قد أمرت بالكتابة ، فيضاره ، ولا يدعه ، وهو يجد غيره ، وكذلك يفعل الشاهد ، فنزلت ولا يضار كاتب ولا شهيد . والثاني: أن معناه: النهي للكاتب أن يضار من يكتب له ، بأن يكتب غير ، ما يمل عليه وللشاهد أن يشهد بما لم يستشهد عليه ، هذا قول الحسن ، وطاووس ، وقتادة ، وابن زيد ، واختاره ابن قتيبة ، والزجاج . واحتج الزجاج على صحته بقوله تعالى: وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم قال: ولا يسمى من دعا كاتبا ليكتب ، وهو مشغول ، أو شاهد; فاسقا ، إنما يسمى من حرف الكتاب ، أو كذب في الشهادة ، فاسقا . والثالث: أن معنى المضارة: امتناع الكاتب أن يكتب ، والشهادة أن يشهد ، وهذا قول عطاء في آخرين .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله تعالى: (وإن تفعلوا) يعني: المضارة .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية