الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      مسألة [ وضع اللفظ المشهور في معنى خفي جدا ]

                                                      منع الرازي أن يوضع اللفظ المشهور في معنى لمعنى خفي جدا ، فالغرض من هذه المسألة الرد على مثبتي الحال ، لأنهم يقولون : الحركة اسم لمعنى يجعل الاسم متحركا ، والمشهور نفس الانتقال لا معنى أوجب [ ص: 239 ] الانتقال ، وجوزه الأصفهاني فإن أسماء الله تعالى مشهورة ، وبإزائها معان دقيقة غامضة لا يفهمها إلا الخواص العارفون بالله ، وبأن الإنسان يدرك معاني لطيفة فيخترع لها ألفاظا بإزائها .

                                                      [ فائدة الوضع ]

                                                      الخامس : في فائدة الوضع ، والمعاني المفردة معلومة في الذهن قبل وضع اللفظ ، وفائدة وضع اللفظ تصورها عند التلفظ لتوقف فهم النسبة التركيبية عليه ، فإذن الفائدة الحاصلة من الألفاظ المفردة تصور معانيها وشعور الذهن بها لا معرفة معانيها ، فلا يلزم الدور ، وتصور النسبة موجود في الذهن قبل وجود اللفظ ، والفائدة الحاصلة باللفظ مع الحركات المخصوصة والتركيب المخصوص معرفتها واقعة أو وقعت أو ستقع ، فالموقوف عليها التصديق لا التصور فلا دور أيضا .

                                                      [ الواضع ]

                                                      السادس : في الواضع : وقد اختلف فيه على مذاهب :

                                                      أحدها : قول الشيخ أبي الحسن الأشعري وبعض أتباعه كابن فورك أنها توقيفية ، وأن الواضع هو الله تعالى وحده ، وأعلمها للخلق بالوحي إلى الأنبياء أو بخلق الأصوات في كل شيء أو بخلق علم ضروري لهم ، وحكاه ابن جني في الخصائص " عن أبي علي الفارسي ، وجزم به ابن فارس [ ص: 240 ]

                                                      والثاني : أنها إلهام من الله تعالى لبني آدم كأصوات الطيور والبهائم حيث كانت أمارات على إرادتها فيما بينها بإلهام الله تعالى ، حكاه صاحب الكبريت الأحمر " عن أبي علي الفارسي ، ويشهد له ما أخرجه الحاكم في مستدركه " عن جابر { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا { قرآنا عربيا لقوم يعلمون } ثم قال : ألهم إسماعيل هذا اللسان إلهاما } ثم قال : صحيح الإسناد ، وقال الذهبي في مختصره " : حقه أن يقول على شرط مسلم ، ولكن مدار الحديث على إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم الغسيلي ، وكان ممن يسرق الحديث .

                                                      انتهى . والثالث : مذهب أبي هاشم وأتباعه أنها اصطلاحية على معنى أن واحدا من البشر أو جماعة وضعها وحصل التعريف للباقين بالإشارة والقرائن كتعريف الوالدين لغتهما للأطفال ، وحكاه ابن جني في الخصائص " عن أكثر أهل النظر . [ ص: 241 ]

                                                      وقال إلكيا الطبري : معنى الاصطلاح أن يعرفهم الله مقاصد اللغات ، ثم يهجس في نفس واحد منهم أن ينصب أمارة على مقصوده ، فإذا نصبها وكررها واتصلت القرائن بها أفادت العلم ، كالصبي يتلقى من والده .

                                                      والقائلون بالتوقيف : يقولون لا بد وأن يلهموا الأمارات .

                                                      قال : ومن فهم المسألة وتصورها لا يحيل تصويرها ، نعم يستحيل تواطؤ العالمين على أمارة واحدة مع اختلاف الدواعي ، فإن عني بالاصطلاح هذا فمسلم ، وإن عني ما ذكرناه ، فلا ، وإذا تعارض الإمكانات توقف على السمع .

                                                      والرابع : أن بعضه من الله وبعضه من الناس ، ثم اختلفوا هل البداءة من الله والتتمة من الناس ؟ ونسبه القرطبي إلى الأستاذ ، وإما عكسه ، وقد ذهب إليه قوم فتصير المذاهب خمسة .

                                                      وقد اختلف في النقل عن الأستاذ ، فحكى الآمدي وابن الحاجب عنه أن القدر المحتاج إليه في التعريف توقيفي ، والباقي محتمل للتوقف وغيره ، وحكى في المحصول " عنه أن الباقي مصطلح وسبقه إلى حكايته أيضا أبو نصر بن القشيري ، والصواب عنه : الأول ، فقد رأيته في كتاب أصول الفقه " للأستاذ أبي إسحاق ، ونقله عن بعض المحققين من أصحابنا ، ثم قال : إنه الصحيح الذي لا يجوز غيره ، وعبارته : أنه لا بد من أن يعلمهم أو يخلق لهم علما بمقدار ما يفهم بعضهم من بعض لمعنى الاصطلاح والوقوف على التسمية ، فإذا عرفوه جاز أن يكون باقيه توقيفا منه لهم عليه ، وجاز أن يكون اصطلاحا فيهم ، ولا طريق بعده إلى معرفة ما كان منه فيه إلا بخبر نبي عنه . هذا لفظه ، وكذلك نقله عنه ابن برهان في الأوسط " ، والأستاذ أبو منصور البغدادي في كتابه . [ ص: 242 ]

                                                      الخامس : قول القاضي وإمام الحرمين وابن القشيري وابن السمعاني وابن برهان وجمهور المحققين كما قاله في المحصول " التوقف ، بمعنى أن الجميع ممكن لتعارض الأدلة ، وأما تعيين المواقع من هذه الأقسام ، فليس فيه نص قاطع ، ومال إليه ابن جني في أواخر الأمر .

                                                      وقال الآمدي : والحق أنه كان المطلوب في هذه المسألة تعيين الواقع ، فالحق ما قاله الشيخ .

                                                      وقال ابن دقيق العيد : الواقف إن توقف عن القطع فلا بأس به ، وإن أراد التوقف عن الظن فظاهر الآية ينفيه .

                                                      وقال التلمساني في الكفاية " : قال المتأخرون من الفقهاء : هذا الخلاف إن كان في الجواز العقلي فهو ثابت بالنسبة إلى جميع المذاهب ، إذ لا يلزم منه محال أصلا ، وإن كان في الوقوع السمعي فباطل ، لأن الوقوع إنما يكون بالنقل ، ولم يوجد فيه خبر متواتر ، ولا برهان عقلي بنفي رجم الظنون بلا فائدة .

                                                      وحكى الأستاذ أبو منصور قولا آخر أن ما وقع التوقيف في الابتداء على لغة واحدة ، وما سواها من اللغات وقع التوقيف عليها بعد الطوفان من الله في أولاد نوح حتى تفرقوا في أقطار الأرض .

                                                      قال : وقد روي عن ابن عباس أن أول من تكلم بالعربية المحضة إسماعيل ، وأراد بها عربية قريش التي نزل بها القرآن ، وأما عربية قحطان وحمير فكانت قبل إسماعيل عليه السلام . [ ص: 243 ]

                                                      وقال في شرح الأسماء " : قال الجمهور الأعظم من الصحابة والتابعين من المفسرين : إنها كلها توقيف من الله ، وقال أهل التحقيق من أصحابنا : لا بد من التوقيف في أصل لغة واحدة لاستحالة وقوع الاصطلاح على أول اللغات من غير معرفة من المصطلحين ، يعني ما اصطلحوا عليه ، وإذا حصل التوقيف على لغة واحدة جاز أن يكون ما بعدها من اللغات اصطلاحا ، وأن يكون توقيفا ، ولا يقطع بأحدهما إلا بدلالة .

                                                      قال : واختلفوا في لغة العرب ، فمن زعم أن اللغات كلها اصطلاح ، فكذا قوله في لغة العرب ، ومن قال بالتوقيف على اللغة الأولى وأجاز الاصطلاح فيما سواها من اللغات اختلفوا في لغة العرب ، فمنهم من قال : هي أول اللغات وكل لغة سواها حدثت بعدها إما توقيفا أو اصطلاحا ، واستدلوا بأن القرآن كلام الله وهو عربي ، وهو دليل على أن لغة العرب أسبق اللغات وجودا ، ومنهم من قال : لغة العرب نوعان :

                                                      أحدهما : عربية حمير وهي التي تكلموا بها في عهد هود ومن قبله ، وبقي بعضها إلى وقتنا .

                                                      والثاني : العربية المحضة التي نزل بها القرآن ، وأول من أطلق لسانه بها إسماعيل فعلى هذا القول يكون توقيف إسماعيل على العربية المحضة محتملا أمرين : إما أن يكون اصطلاحا بينه وبين جرهم النازلين عليه بمكة ، وإما أن يكون توقيفا من الله ، وهو الصواب . ا هـ . وحكى ابن جني في الخصائص " قولا آخر أن أصل اللغات إنما هو من الأصوات والأسماع ، كدوي الريح وحنين الرعد وخرير الماء ونهيق الحمار ونعيق الغراب وصهيل الفرس ونحوه ، ثم تولدت اللغات عن ذلك فيما بعد .

                                                      قال : وهذا عندي وجه صالح ومذهب متقبل . قال : وأبو الحسن الأخفش [ ص: 244 ] يذهب إلى أنها توفيقية ، لكنه لم يمنع القول بالاصطلاح .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية