الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
القول في تأويل قوله تعالى : ( ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا ( 97 ) )

يقول تعالى ذكره : ومن يهد الله يا محمد للإيمان به ، ولتصديقك وتصديق ما جئت به من عند ربك ، فوفقه لذلك ، فهو المهتد الرشيد المصيب الحق ، لا من هداه غيره ، فإن الهداية بيده . ( ومن يضلل ) يقول : ومن يضلله الله عن الحق ، فيخذله عن إصابته ، ولم يوفقه للإيمان بالله وتصديق رسوله ، فلن تجد لهم يا محمد أولياء ينصرونهم من دون الله ، إذا أراد الله عقوبتهم والاستنقاذ منهم .

( ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم ) يقول : ونجمعهم بموقف القيامة من بعد تفرقهم في القبور عند قيام الساعة ( على وجوههم عميا وبكما ) وهو جمع أبكم ، ويعني بالبكم : الخرس .

كما حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : ثنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله ( وبكما ) قال : الخرس ( وصما ) وهو جمع أصم .

فإن قال قائل : وكيف وصف الله هؤلاء بأنهم يحشرون عميا وبكما وصما ، وقد قال ( ورأى المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها ) فأخبر أنهم يرون ، وقال ( إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا ) [ ص: 560 ] فأخبر أنهم يسمعون وينطقون؟ قيل : جائز أن يكون ما وصفهم الله به من العمى والبكم والصمم يكون صفتهم في حال حشرهم إلى موقف القيامة ، ثم يجعل لهم أسماع وأبصار ومنطق في أحوال أخر غير حال الحشر ، ويجوز أن يكون ذلك ، كما روي عن ابن عباس في الخبر الذي حدثنيه علي بن داود ، قال : ثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، قوله ( ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما ) ثم قال ( ورأى المجرمون النار فظنوا ) وقال ( سمعوا لها تغيظا وزفيرا ) وقال ( دعوا هنالك ثبورا ) أما قوله ( عميا ) فلا يرون شيئا يسرهم . وقوله ( بكما ) لا ينطقون بحجة ، وقوله ( صما ) لا يسمعون شيئا يسرهم ، وقوله ( مأواهم جهنم ) يقول جل ثناؤه : ومصيرهم إلى جهنم ، وفيها مساكنهم ، وهم وقودها .

كما حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله ( مأواهم جهنم ) يعني إنهم وقودها .

وقوله ( كلما خبت زدناهم سعيرا ) يعني بقوله خبت : لانت وسكنت ، كما قال عدي بن زيد العبادي في وصف مزنة :


وسطه كاليراع أو سرج المجدل حينا يخبو وحينا ينير



يعني بقوله : يخبو السرج : أنها تلين وتضعف أحيانا ، وتقوى وتنير أخرى ، ومنه قول القطامي : [ ص: 561 ]


فيخبو ساعة ويهب ساعا



وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل على اختلاف منهم في العبارة عن تأويله .

ذكر من قال ذلك :

حدثني علي بن داود ، قال : ثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس ، في قوله ( كلما خبت ) قال : سكنت .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، ( كلما خبت زدناهم سعيرا ) يقول : كلما أحرقتهم تسعر بهم حطبا ، فإذا أحرقتهم فلم تبق منهم شيئا صارت جمرا تتوهج ، فذلك خبوها ، فإذا بدلوا خلقا جديدا عاودتهم .

حدثني محمد بن عمرو ، قال : ثنا أبو عاصم ، قال : ثنا عيسى ; وحدثني الحارث ، قال : ثنا الحسن ، قال : ثنا ورقاء ، جميعا عن مجاهد حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد مثله .

حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس ( كلما خبت ) قال : خبوها أنها تسعر بهم حطبا ، فإذا أحرقتهم ، فلم يبق منهم شيء صارت جمرا تتوهج ، فإذا بدلوا خلقا جديدا عاودتهم .

حدثنا بشر ، قال : ثنا يزيد ، قال : ثنا سعيد ، عن قتادة قوله ( كلما خبت زدناهم سعيرا ) يقول : كلما احترقت جلودهم بدلوا جلودا غيرها ، ليذوقوا العذاب .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله ( كلما خبت زدناهم سعيرا ) قال : كلما لان منها شيء . [ ص: 562 ]

حدثت عن مروان ، عن جويبر ، عن الضحاك ( كلما خبت ) قال : سكنت . وقوله ( زدناهم سعيرا ) يقول : زدنا هؤلاء الكفار سعيرا ، وذلك إسعار النار عليهم والتهابها فيهم وتأججها بعد خبوها ، في أجسامهم .

التالي السابق


الخدمات العلمية