الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (35) قوله تعالى : إذ قالت امرأت عمران : في الناصب له أوجه ، أحدها : أنه "اذكر " مقدرا ، فيكون مفعولا به لا ظرفا أي : اذكر لهم وقت قول امرأة عمران كيت وكيت ، وإليه ذهب أبو الحسن وأبو العباس . الثاني : أن الناصب له معنى الاصطفاء أي بـ "اصطفى " مقدرا مدلولا عليه باصطفى الأول ، والتقدير : واصطفى آل عمران إذ قالت امرأة عمران ، وعلى هذا يكون قوله : "وآل عمران " من باب عطف الجمل لا من باب عطف المفردات ، إذا لو جعل من عطف المفردات لزم أن يكون وقت اصطفاء آدم وقت قول امرأة عمران كيت وكيت ، وليس كذلك لتغاير الزمانين ، فلذلك اضطررنا إلى تقدير عامل غير هذا الملفوظ به ، وإلى هذا ذهب الزجاج وغيره .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 130 ] الثالث : أنه منصوب بـ "سميع " وبه صرح ابن جرير الطبري . وإليه نحا الزمخشري ظاهرا فإنه قال : "أو سميع عليم لقول امرأة عمران ونيتها ، و " إذ "منصوب به " . قال الشيخ : "ولا يصح ذلك لأن قوله " عليم " : إما أن يكون خبرا بعد خبر أو وصفا لقوله : " سميع " ، فإن كان خبرا فلا يجوز الفصل بين العامل والمعمول لأنه أجنبي منهما ، وإن كان وصفا فلا يجوز أن يعمل " سميع "في الظرف لأنه قد وصف ، واسم الفاعل وما جرى مجراه إذا وصف قبل أخذ معموله لا يجوز له إذ ذاك أن يعمل ، على خلاف لبعض الكوفيين في ذلك ، ولأن اتصافه تعالى بسميع عليم لا يتقيد بذلك الوقت " قلت : وهذا العذر غير مانع لأنه يتسع في الظرف وعديله ما لا يتسع في غيره ، ولذلك يقدم على ما في حيز "أل " الموصولة وما في حيز "أن " المصدرية .

                                                                                                                                                                                                                                      الرابع : أن تكون "إذ " زائدة وهو قول أبي عبيدة ، والتقدير : قالت امرأة ، وهذا عند النحويين غلط ، وكان أبو عبيدة يضعف في النحو .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : محررا في نصبه أوجه ، أحدها : أنه حال من الموصول وهو "ما في بطني " ، فالعامل فيها "نذرت " . الثاني : أنه حال من الضمير المرفوع بالجار لوقوعه صلة لـ "ما " ، وهو قريب من الأول ، فالعامل في هذه الحال الاستقرار الذي تضمنه الجار والمجرور . الثالث : أن ينتصب على المصدر ؛ لأن المصدر يأتي على زنة اسم المفعول من الفعل الزائد على ثلاثة أحرف ، وعلى هذا فيجوز أن يكون في الكلام حذف مضاف تقديره : [ ص: 131 ] نذرت لك ما في بطني نذر تحرير ، ويحوز أن يكون مما انتصب على المعنى ؛ لأن معنى "نذرت لك " حررت ما في بطني تحريرا . ومن مجيء المصدر بزنة المفعول مما زاد على الثلاثي قوله تعالى : ومزقناهم كل ممزق ، وقوله : ومن يهن الله فما له من مكرم في قراءة من فتح الراء ، أي : كل تمزيق ، وفما له من إكرام ، ومثله قول الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                      1240 - ألم تعلم مسرحي القوافي فلاعيا بهن ولا اجتلابا



                                                                                                                                                                                                                                      أي : تسريحي القوافي . الرابع : أن يكون نعت مفعول محذوف تقديره : غلاما محررا ، قاله مكي بن أبي طالب . وجعل ابن عطية في هذا القول نظرا . قلت : وجه النظر فيه أن "نذر " قد أخذ مفعوله وهو قوله : ما في بطني فلم يتعد إلى مفعول آخر ؟ وهو نظر صحيح . وعلى القول بأنها حال يجوز أن تكون حالا مقارنة إن أريد بالتحرير معنى العتق ، ومقدرة إن أريد به معنى خدمة الكنيسة كما جاء في التفسير .

                                                                                                                                                                                                                                      ووقف أبو عمرو والكسائي على "امرأه " بالهاء دون التاء ، وقد كتبوا امرأة بالتاء وقياسها الهاء هنا وفي يوسف : امرأت العزيز [في ] موضعين ، [ ص: 132 ] و امرأت نوح وامرأت لوط و امرأت فرعون ، وأهل المدينة يقفون بالتاء اتباعا لرسم المصحف ، وهي لغة للعرب يقولون في حمزة : حمزت ، وأنشدوا :


                                                                                                                                                                                                                                      1241 - الله نجاك بكفي مسلمت     من بعدما وبعدما وبعدمت



                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : ما في بطني أتى بـ "ما " التي لغير العاقل لأن ما فيه بطنها مبهم أمره ، والمبهم أمره يجوز أن يعبر عنه بـ "ما " ، ومثاله إذا رأيت شيخا من بعيد لا تدري أإنسان هو أم غيره : ما هذا ؟ ولو عرفت أنه إنسان وجهلت كونه ذكرا أم أنثى قلت : ما هو . أيضا ، والآية من هذا القبيل هذا عند من يرى أن "ما " مخصوصة بغير العاقل ، وأما من يرى وقوعها على العقلاء فلا يتأول شيئا . وقيل : إنه لما كان ما في البطن لا تمييز له ولا عقل عبر بـ "ما " التي لغير العقلاء .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية