الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      آ . (36) قوله تعالى : فلما وضعتها : الضمير في "وضعتها " يعود على "ما " من حيث المعنى ، لأن الذي في بطنها أنثى في علم الله تعالى ، فعاد الضمير على معناها ، دون لفظها . وقيل : إنما أنثه حملا على معنى النسمة أو الحبلة أو النفس ، قاله الزمخشري وقال ابن عطية : "حملا على الموجودة [ورفعا للفظ " ما "في قوله : ما في بطني ] محررا .

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 133 ] قوله : أنثى فيه وجهان ، أحدهما : أنها منصوبة على الحال وهي حال مؤكدة لأن التأنيث مفهوم من تأنيث الضمير ، فجاءت " أنثى "مؤكدة ، قال الزمخشري " فإن قلت : كيف جاز انتصاب "أنثى " حالا من الضمير في "وضعتها " وهو كقولك : "وضعت الأنثى أنثى " ؟ قلت : الأصل وضعته أنثى ، وإنما أنث لتأنيث الحال ، لأن الحال وذا الحال لشيء واحد كما أنث الاسم في "من كانت أمك " لتأنيث الخبر . ونظيره قوله تعالى : فإن كانتا اثنتين ، وأما على تأويل النسمة والحبلة فهو ظاهر ، كأنه قيل : إني وضعت الحبلة والنسمة أنثى "يعني أن الحال على الجواب الثاني تكون مبينة لا مؤكدة ، وذلك لأن النسمة والحبلة تصدق على الذكر وعلى الأنثى ، فلما حصل فيها الاشتراك جاءت الحال مبينة لها .

                                                                                                                                                                                                                                      إلا أن الشيخ ناقشه في الجواب الأول فقال : " وآل قوله - يعني الزمخشري - إلى أنها حال مؤكدة ، ولا يخرجه تأنيثه لتأنيث الحال عن أن تكون حالا مؤكدة . وأما تشبيهه ذلك بقوله : "من كانت أمك " حيث عاد الضمير على معنى "من " فليس ذلك نظير "وضعتها أنثى " لأن ذلك حمل على معنى "من " إذ المعنى : أية امرأة كانت أمك ، أي : كانت هي أي أمك ، فالتأنيث ليس لتأنيث الخبر ، وإنما هو من باب الحمل على معنى من ، ولو فرضنا أنه من تأنيث الاسم لتأنيث الخبر لم يكن نظير "وضعتها أنثى " لأن الخبر تخصص بالإضافة إلى الضمير ، فاستفيد من الخبر ما لا يستفاد من الاسم ، بخلاف "أنثى " فإنه لمجرد التوكيد . وأما تنظيره بقوله : فإن كانتا اثنتين فيعني أنه ثنى الاسم لتثنية الخبر ، والكلام عليه يأتي في مكانه ، فإنه من [ ص: 134 ] المشكلات ، فالأحسن أن يجعل الضمير في "وضعتها أنثى " عائدا على النسمة أو النفس ، فتكون الحال مبينة لا مؤكدة " .

                                                                                                                                                                                                                                      قلت : قوله " ليس نظيره ، لأن "من كانت أمك " حمل فيه على معنى [من ] ، وهذا أنث لتأنيث الخبر "ليس كما قال ، بل هو نظيره ، وذلك أنه في الآية الكريمة حمل على معنى " ما "كما حمل هناك على معنى " من " ، وقول الزمخشري : " لتأنيث الخبر "أي : لأن المراد بـ " من "التأنيث بدليل تأنيث الخبر ، فتأنيث الخبر بين لنا أن المراد بـ " من "المؤنث ، كذلك تأنيث الحال - وهي أنثى - بين لنا أن المراد بـ " ما "في قوله : ما في بطني أنه شيء مؤنث ، وهذا واضح لا يحتاج إلى فكر . وأما قوله : "فقد استفيد من الخبر ما لا يستفاد من الاسم بخلاف " وضعتها أنثى "فإنه لمجرد التوكيد " فليس بظاهر أيضا ؛ وذلك لأن الزمخشري إنما أراد بكونه نظيره من حيث إن التأنيث في كل من المثالين مفهوم قبل مجيء الحال في الآية ، وقبل مجيء الخبر في النظير المذكور . أما كونه يفارقه في شيء آخر لعارض فلا يضر ذلك في التنظير ، ولا يخرجه عن كونه يشبهه من هذه الجهة .

                                                                                                                                                                                                                                      وقد تحصل لك في هذه الحال وجهان ، أحدهما : أنها مؤكدة إن قلنا إن الضمير في "وضعتها " عائد على معنى "ما " . والثاني : أنها مبينة إن قلنا : إن الضمير عائد على معنى الحبلة أو النسمة أو النفس ، لصدق كل من هذه الألفاظ الثلاثة على الذكر والأنثى .

                                                                                                                                                                                                                                      الوجه الثاني من وجهي "أنثى " : أنها بدل من "ها " في "وضعتها " بدل كل من كل ، قاله أبو البقاء ، ويكون في هذا البدل بيان ما المراد بهذا [ ص: 135 ] الضمير ، وهذا من المواضع التي يفسر فيها الضمير بما بعده لفظا ورتبة . فإن كان الضمير مرفوعا نحو : وأسروا النجوى الذين ظلموا على أحد الأوجه ، فالكل يجيزون فيه البدل . وإن كان غير مرفوع نحو : "ضربته زيدا " ومررت به زيد ، فاختلف فيه ، والصحيح جوازه كقول الشاعر :


                                                                                                                                                                                                                                      1242 - على حالة لو أن في القوم حاتما على جوده لضن بالماء حاتم



                                                                                                                                                                                                                                      بجر "حاتم " الأخير ، بدلا من الهاء في "جوده " .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : بما وضعت قرأ ابن عامر وأبو بكر : "وضعت " بتاء المتكلم ، وهو من كلام أم مريم عليها السلام خاطبت بذلك نفسها تسليا لها ، واعتذارا لله تعالى حيث أتت بمولود لا يصلح لما نذرته من سدانة بيت المقدس . قال الزمخشري - وقد ذكر هذه القراءة - : "تعني ولعل لله تعالى فيه سرا وحكمة ، ولعل هذه الأنثى خير من الذكر تسلية لنفسها " . وفي قولها والله أعلم بما وضعت التفات من الخطاب إلى الغيبة ، إذ لو جرت على مقتضى قولها : "رب " لقالت : "وأنت أعلم " .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ الباقون : "وضعت " بتاء التأنيث الساكنة على إسناد الفعل لضمير مريم عليها السلام ، وهو من كلام الباري تبارك وتعالى ، وفيه تنبيه على عظم قدر هذا المولود ، وأن له شأنا لم تعرفيه ، ولم تعرفي إلا كونه أنثى لا غير ، دون ما يؤول إليه من أمور عظام وآيات واضحة ، قال الزمخشري : [ ص: 136 ] " ولتكلمها بذلك على وجه التحزن والتحسر قال الله تعالى : والله أعلم بما وضعت تعظيما لموضوعها وتجهيلا لها بقدر ما وهب لها منه ، ومعناه : والله أعلم بالشيء الذي وضعت وما علق من عظائم الأمور ، وأن يجعله وولده آية للعالمين ، وهي جاهلة بذلك لا تعلم منه شيئا فلذلك تحسرت " . وقد رجح بعضهم القراءة الثانية على الأولى بقوله : والله أعلم قال : "لو كان من كلام أم مريم لكان التركيب : وأنت أعلم " وقد تقدم جواب هذا وأنه التفات .

                                                                                                                                                                                                                                      وقرأ ابن عباس : "وضعت " بكسر التاء على أنها تاء المخاطبة ، خاطبها الله تعالى بذلك بمعنى : أنك لا تعلمين قدر هذه المولودة ، ولا قدر ما علمه الله فيها من عظائم الأمور .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : وليس الذكر كالأنثى هذه الجملة تحتمل أن تكون معترضة ، وأن يكون لها محل ، وذلك بحسب القراءات المذكورة في "وضعت " ، كما سيمر بك تفصيله . والألف واللام في "الذكر " يحتمل أن تكون للعهد ، والمعنى : ليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وهبت لها . قال الزمخشري : "فإن قلت : فما معنى قولها : " وليس الذكر كالأنثى " ؟ قلت : هو بيان لـ " ما "في قوله : والله أعلم بما وضعت من التعظيم للموضوع والرفع منه ، ومعناه : وليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وهبت لها ، والألف واللام فيهما للعهد " وأن تكون للجنس على أن مرادها أن الذكر ليس كالأنثى في الفضل والمزية ؛ إذ هو صالح لخدمة المتعبدات وللتحرير ولمخالطة الأجانب بخلاف [ ص: 137 ] الأنثى ، وكان سياق الكلام على هذا يقتضي أن يدخل النفي على ما استقر وحصل عندها وانتفت عنه صفات الكمال للغرض المقصود منه ، فكان التركيب : وليس الأنثى كالذكر ، وإنما عدل عن ذلك لأنها بدأت بالأهم بما كانت تريده . وهو المتلجلج في صدرها والحائك في نفسها فلم يجر لسانها في ابتداء النطق إلا به فصار التقدير : وليس جنس الذكر مثل جنس الأنثى لما بينهما من التفاوت فيما ذكر . ولولا هذه المعاني التي استنبطها العلماء وفهموها عن الله تعالى لم يكن لمجرد الإخبار بالجملة الليسية معنى ؛ إذ كل أحد يعلم أن الذكر ليس كالأنثى .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله : وإني سميتها مريم هذه الجملة معطوفة على قوله : إني وضعتها على قراءة من ضم التاء في قوله "وضعت " فتكون هي وما قبلها من محل نصب بالقول ، والتقدير : قالت إني وضعتها ، وقالت : والله أعلم بما وضعت ، وقالت : وليس الذكر كالأنثى ، وقالت : إني سميتها مريم . وأما على قراءة من سكن التاء أو كسرها فيكون "إني سميتها " أيضا معطوفا على "إني وضعتها " ، ويكون قد فصل بين المتعاطفين بجملتي اعتراض كقوله تعالى : وإنه لقسم لو تعلمون عظيم قاله الزمخشري .

                                                                                                                                                                                                                                      قال الشيخ : "ولا يتعين ما ذكر من كونهما جملتين معترضتين ، لأنه يحتمل أن يكون وليس الذكر كالأنثى في هذه القراءة من كلامها ، ويكون المعترض جملة واحدة كما كان من كلامها في قراءة من قرأ : " وضعت "بضم التاء ، بل ينبغي أن يكون هذا المتعين لثبوت كونه من كلامها في هذه القراءة ، ولأن في اعتراض جملتين خلافا ، مذهب أبي علي أنه لا تعترض جملتان ، [ ص: 138 ] وأيضا تشبيهه هاتين الجملتين اللتين اعترض بهما على زعمه بين المعطوف والمعطوف عليه بقوله : وإنه لقسم لو تعلمون عظيم ليس تشبيها مطابقا للآية لأنه لم تعترض جملتان بين طالب ومطلوب ، بل اعترض بين القسم الذي هو : فلا أقسم بمواقع النجوم وبين جوابه الذي هو : إنه لقرآن كريم بجملة واحدة ، وهي قوله : وإنه لقسم لو تعلمون عظيم لكنه جاء في جملة الاعتراض بين بعض أجزائه وبعض اعتراض بجملة وهو قوله : " لو تعلمون "اعترض به بين المنعوت الذي هو " لقسم "وبين نعته الذي هو " عظيم " ، فهذا اعتراض في اعتراض ، فليس فصلا بجملتي اعتراض كقوله : والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى قلت : والمشاحة بمثل هذه الأشياء ليست طائلة ، وقوله : " ليس فصلا بجملتي اعتراض "ممنوع ، بل هو فصل بجملتي اعتراض ، وكونه جاء اعتراض في اعتراض لا يضر ذلك ولا يقدح في قوله : " فصل بجملتين " .

                                                                                                                                                                                                                                      و " سمى "يتعدى لاثنين . أحدهما بنفسه وإلى الآخر بحرف الجر ، ويجوز حذفه ، تقول : سميت ابني زيدا والأصل : بزيد ، قال الشاعر فجمع بين الأصل والفرع :


                                                                                                                                                                                                                                      1243 - وسميت كعبا بشر العظام     وكان أبوك يسمى الجعل



                                                                                                                                                                                                                                      أي : يسمى بالجعل . وقد تقدم الكلام في " مريم "واشتقاقها ومعناها وكونها من الشاذ عن نظائره .

                                                                                                                                                                                                                                      قوله : وإني أعيذها عطف على " إني سميتها " ، وأتى هنا بخبر [ ص: 139 ] " إن "فعلا مضارعا دلالة على طلبها استمرار الاستعاذة دون انقطاعها ، بخلاف قوله : " وضعتها وسميتها "حيث أتى بالخبرين ماضيين لانقطاعهما ، وقدم المعاذ به على المعطوف اهتماما به .

                                                                                                                                                                                                                                      وفتح نافع ياء المتكلم قبل هذه الهمزة المضمومة ، وكذلك كل ياء وقع بعدها همزة مضمومة إلا موضعين ، فإن الكل اتفقوا على سكونها فيهما : بعهدي أوف آتوني أفرغ ، والباقي عشرة مواضع ، هذا الذي في هذه السورة أحدها .

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية