الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فتح مكة شرفها الله تعالى

وكانت في شهر رمضان سنة ثمان. وكان السبب فيها فيما ذكر ابن إسحاق: أن بني بكر بن عبد مناة بن كنانة عدت على خزاعة، وهم على ماء لهم بأسفل مكة يقال له الوتير. وكان الذي هاج ما بين بكر وخزاعة; أن رجلا من بني الحضرمي يقال له: مالك بن عباد - وحلف الحضرمي يومئذ إلى الأسود بن رزن - خرج تاجرا، فلما توسط أرض خزاعة عدوا عليه فقتلوه، وأخذوا ماله، فعدت بنو بكر على رجل من خزاعة فقتلوه، فعدت خزاعة قبل الإسلام على بني الأسود بن رزن الديلي، وهم منخر بني كنانة وأشرافهم: سلمى ، وكلثوم ، وذؤيب، فقتلوهم بعرفة عند أنصاب الحرم، فبينما هم كذلك حجز بينهم الإسلام . وتشاغل الناس به، فلما كان صلح الحديبية بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش، كان فيما شرطوا; أنه من أحب أن يدخل في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده فليدخل فيه، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم فليدخل فيه. فدخلت بنو بكر في عهد قريش، ودخلت خزاعة في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما كانت الهدنة اغتنمها بنو الديل بن بكر; وأرادوا أن يصيبوا منهم ثأرا بأولئك النفر الذين أصابوا منهم في الأسود بن رزن، فخرج نوفل بن معاوية الديلي في بني الديل بن بكر من كنانة، حتى بيت خزاعة وهم على الوتير - ماء لهم - فأصابوا منهم رجلا، وتحاوزوا واقتتلوا ، ورفدت بني بكر قريش بالسلاح، وقاتل معهم من قريش من قاتل بالليل مستخفيا.

ذكر ابن سعد منهم: صفوان بن أمية ، وحويطب بن عبد العزى ، ومكرز بن حفص بن الأخيف.

[ ص: 224 ] حتى حاوزوا خزاعة إلى الحرم . فلما انتهوا إليه، قالت بنو بكر: يا نوفل إنا قد دخلنا الحرم إلهك إلهك. فقال: كلمة عظيمة: لا إله اليوم يا بني بكر، أصيبوا ثأركم، فلعمري إنكم لتسرقون في الحرم، أفلا تصيبون ثأركم فيه؟.

وقد أصابوا منهم ليلة بيتوهم بالوتير رجلا: يقال له منبه ، فلما دخلت خزاعة مكة لجؤوا إلى دار بديل بن ورقاء الخزاعي، ودار مولى لهم يقال له رافع. ولما تظاهر بنو بكر وقريش على خزاعة، ونقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد والميثاق، خرج عمرو بن سالم الخزاعي - قال ، ابن سعد: في أربعين راكبا - حتى قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وكان ذلك ما هاج فتح مكة، فوقف عليه وهو جالس في المسجد بين ظهراني الناس، فقال:


يا رب إني ناشد محمدا


حلف أبينا وأبيه الأتلدا


قد كنتم ولدا وكنا والدا


ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا


فانصر هداك الله نصرا أعتدا


وادع عباد الله يأتوا مددا


فيهم رسول الله قد تجردا


إن سيم خسفا وجهه تربدا


في فيلق كالبحر يجري مزبدا


إن قريشا أخلفوك الموعدا


ونقضوا ميثاقك الموكدا

[ ص: 225 ]

وجعلوا لي في كداء رصدا


وزعموا أن لست أدعو أحدا


وهم أذل وأقل عددا


هم بيتونا بالوتير هجدا


وقتلونا ركعا وسجدا

يقول: قتلنا وقد أسلمنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نصرت يا عمرو بن سالم. ثم عرض لرسول الله صلى الله عليه وسلم عنان من السماء، فقال: "إن هذه السحابة لتستهل بنصر بني كعب" .


ثم خرج بديل بن ورقاء في نفر من بني خزاعة، حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبروه بما أصيب منهم، وبمظاهرة قريش بني بكر عليهم.

قلت: لعل الأربعين راكبا الذين ذكر ابن سعد قدومهم من خزاعة مع عمرو بن سالم هم هؤلاء.

رجع إلى خبر ابن إسحاق: ثم رجعوا إلى مكة، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس: كأنكم بأبي سفيان قد جاءكم ليشد العقد، ويزيد في المدة. ومضى بديل بن ورقاء في أصحابه، حتى لقوا أبا سفيان بن حرب بعسفان ، وقد بعثته قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشد العقد ويزيد في المدة، وقد رهبوا الذي صنعوا، فلما لقي أبو سفيان ، بديل بن ورقاء، قال: من أين أقبلت يا بديل؟ وظن أنه قد أتى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: سرت في خزاعة في هذا الساحل، وفي بعض هذا الوادي. قال: أو ما جئت محمدا؟ قال: لا. فلما راح بديل إلى مكة، قال أبو سفيان: لئن كان جاء المدينة، لقد علف بها النوى ، فأتى مبرك راحلته، فأخذ من بعرها ففته، فرأى فيه النوى، فقال: أحلف بالله لقد جاءبديل محمدا. ثم خرج أبو سفيان حتى قدم المدينة ، فدخل على ابنته أم حبيبة، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم طوته عنه، فقال: يا بنية ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش، أم رغبت به عني؟ قالت: بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنت مشرك نجس. قال: والله لقد أصابك بعدي شر. ثم خرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلمه، فلم يرد عليه شيئا، ثم ذهب إلى [ ص: 226 ] أبي بكر، فكلمه أن يكلم له رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما أنا بفاعل. ثم أتى عمر بن الخطاب، فكلمه، فقال: أنا أشفع لكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فوالله لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به. ثم جاء فدخل على علي بن أبي طالب، وعنده فاطمة وحسن غلام يدب بين يديها، فقال: يا علي إنك أمس القوم به رحما، وإني قد جئت في حاجة، فلا أرجعن كما جئت خائبا، اشفع لي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: ويحك يا أبا سفيان والله لقد عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمر ما نستطيع أن نكلمه فيه. فالتفت إلى فاطمة، فقال: يا بنت محمد! هل لك أن تأمري ابنك هذا فيجير بين الناس فيكون سيد العرب إلى آخر الدهر؟ قالت: والله ما يبلغ بني ذاك، أن يجير بين الناس، وما يجير أحد على رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: يا أبا الحسن إني أرى الأمور قد اشتدت علي فانصحني. قال: والله ما أعلم لك شيئا يغني عنك، ولكنك سيد بني كنانة، فقم وأجر بين الناس، ثم الحق بأرضك. قال: أو ترى ذلك مغنيا عني شيئا؟ قال: لا والله ما أظنه، ولكني لا أجد لك غير ذلك. فقام أبو سفيان في المسجد، فقال: أيها الناس إني قد أجرت بين الناس، ثم ركب بعيره فانطلق. فلما قدم على قريش قالوا: ما وراءك؟ قال: جئت محمدا فكلمته، فوالله ما رد علي شيئا، ثم جئت ابن أبي قحافة، فلم أجد فيه خيرا، ثم جئت عمر بن الخطاب فوجدته أدنى العدو. ثم جئت عليا، فوجدته ألين القوم، وقد أشار علي بشيء صنعته، فوالله ما أدري هل يغني عني شيئا أم لا. قالوا: وبم أمرك؟ قال: أمرني أن أجير بين الناس ففعلت، قالوا: فهل أجاز ذلك محمد؟ قال: لا. قالوا: ويلك والله إن زاد الرجل على أن لعب بك. قال: لا والله، ما وجدت غير ذلك.

وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجهاز، وأمر أهله أن يجهزوه، فدخل أبو بكر على ابنته عائشة وهي تحرك بعض جهاز رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أي بنية أمركن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتجهيزه ؟ قالت: نعم فتجهز. قال: فأين ترينه يريد؟ قالت: لا والله ما أدري. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم الناس أنه سائر إلى مكة، وأمرهم بالجد والتجهز، وقال: اللهم خذ العيون والأخبار عن قريش حتى نبغتها في بلادها. فتجهز الناس.

فكتب حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش كتابا يخبرهم بذلك ، ثم أعطاه امرأة ، وجعل لها جعلا على أن تبلغه قريشا، فجعلته في قرون رأسها، ثم خرجت به ، وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 227 ] الخبر من السماء بما صنع حاطب، فبعث عليا ، والزبير - وغير ابن إسحاق يقول: بعث عليا ، والمقداد - فقال: أدركا امرأة، قد كتب معها حاطب بكتاب إلى قريش، يحذرهم ما قد أجمعنا له في أمرهم، فخرجا حتى أدركاها، فاستنزلاها، والتمسا في رحلها، فلم يجدا شيئا، فقال لها علي: إني أحلف بالله ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا كذبنا، ولتخرجن هذا الكتاب أو لنكشفنك. فلما رأت الجد منه، قالت: أعرض. فأعرض، فحلت قرون رأسها، فاستخرجت الكتاب منها، فدفعته إليه، فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعا حاطبا، فقال له: ما حملك على هذا؟ فقال: والله إني لمؤمن بالله ورسوله، ما غيرت ولا بدلت، ولكني ليس لي في القوم أصل ولا عشيرة، ولي بين أظهرهم ولد وأهل، فصانعتهم عليهم، فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله دعني فلأضرب عنقه، فإن الرجل قد نافق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وما يدريك يا عمر لعل الله قد اطلع على أصحاب بدر يوم بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم.

ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لسفره، فاستخلف على المدينة أبا رهم كلثوم بن الحصين الغفاري - وقال ابن سعد: عبد الله بن أم مكتوم - فخرج لعشر مضين من شهر رمضان، فصام وصام الناس معه، حتى إذا كانوا بالكديد أفطر، ثم مضى حتى نزل مر الظهران في عشرة آلاف، وعميت الأخبار عن قريش، فهم على وجل وارتقاب، فخرج أبو سفيان بن حرب ، وحكيم بن حزام ، وبديل بن ورقاء يتجسسون الأخبار.

وكان العباس قد خرج قبل ذلك بعياله مسلما مهاجرا، فلقي رسول الله صلى الله عليه وسلم، قيل: بالجحفة، وقيل: بذي الحليفة. وكان فيمن خرج ولقي رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض الطريق أبو سفيان بن الحارث ، وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة بالأبواء، وقيل بين السقيا والعرج، فأعرض عنهما، فقالت له أم سلمة: لا يكن ابن عمك وابن عمتك أخي; أشقى الناس بك، وقال علي ، لأبي سفيان - فيما حكاه أبو عمر - ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل وجهه فقل له ما قال إخوة يوسف عليه السلام ليوسف: ( تالله لقد آثرك الله علينا وإن كنا لخاطئين ) فإنه لا يرضى أن يكون أحد أحسن قولا منه. ففعل ذلك أبو سفيان، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين ) وقبل منهما إسلامهما، فأنشده أبو سفيان معتذرا أبياتا، منها: [ ص: 228 ]

لعمرك إني يوم أحمل راية     لتغلب خيل اللات خيل محمد
لكالمدلج الحيران أظلم ليله     فهذا أواني حين أهدى فأهتدي
هداني هاد غير نفسي ودلني     على الله من طردته كل مطرد

فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره، وقال: أنت طردتني كل مطرد.

وكان أبو سفيان بعد ذلك ممن حسن إسلامه، فيقال: إنه ما رفع رأسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلم حياء منه، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحبه ويشهد له بالجنة، ويقول: أرجو أن يكون خلفا من حمزة. ويروى أنه لما حضرته الوفاة، قال: لا تبكوا علي فلم أتنطف بخطيئة منذ أسلمت.

فلما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم مر الظهران - وقال ابن سعد: نزله عشاء، فأمر أصحابه فأوقدوا عشرة آلاف نار، وجعل على الحرس عمر بن الخطاب - رقت نفس العباس لأهل مكة، قال: فجلست على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء، فخرجت عليها حتى جئت الأراك، فقلت: لعلي أجد بعض الحطابة، أو صاحب لبن، أو ذا جاجة، يأتي مكة فيخبرهم بمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرجوا إليه فيستأمنوه قبل أن يدخلها عنوة، فوالله إني لأسير عليها، إذ سمعت كلام أبي سفيان ، وبديل بن ورقاء، وهما يتراجعان، وأبو سفيان يقول: ما رأيت كالليلة نيرانا قط ولا عسكرا. قال يقول بديل: هذه والله خزاعة، حمشتها الحرب ، فيقول أبو سفيان: خزاعة أذل وأقل من أن تكون نيرانها وعسكرها، قال: فعرفت صوته، فقلت: يا أبا حنظلة! فعرف صوتي، فقال: أبو الفضل؟ قلت: نعم. قال: ما لك فداك أبي وأمي، قال: قلت والله هذا رسول الله في الناس، واصباح قريش والله. قال: فما الحيلة فداك أبي وأمي؟ قال: قلت: والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك، فاركب في عجز هذه البغلة، حتى آتي بك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأستأمنه لك. فركب خلفي، ورجع صاحباه، قال: فجئت به، كلما مررت بنار من نيران المسلمين، قالوا: [ ص: 229 ] من هذا؟ وإذا رأوا بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا عليها، قالوا: عم رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته، حتى مررت بنار عمر بن الخطاب، فقال: من هذا؟ وقام إلي، فلما رأى أبا سفيان على عجز الدابة، قال: أبو سفيان عدو الله؟ الحمد لله الذي أمكن منك بغير عقد ولا عهد. ثم خرج يشتد نحو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وركضت البغلة، فسبقت، فاقتحمت عن البغلة، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل عليه عمر، فقال: يا رسول الله هذا أبو سفيان فدعني فلأضرب عنقه. قال: فقلت: يا رسول الله إني قد أجرته، ثم جلست إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذت برأسه، فقلت: والله لا يناجيه الليلة رجل دوني، فلما أكثر عمر في شأنه، قلت: مهلا يا عمر، فوالله لو كان من رجال بني عدي بن كعب ما قلت مثل هذا . قال: مهلا يا عباس فوالله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إلي من إسلام الخطاب لو أسلم، وما بي إلا أني قد عرفت أن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اذهب به يا عباس إلى رحلك، فإذا أصبحت فأتني به. فذهبت به، فلما أصبح غدوت به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله؟ قال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى شيئا بعد. قال: "ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟ قال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك أما هذه والله فإن في النفس حتى الآن منها شيئا. فقال له العباس: ويحك أسلم، واشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قبل أن تضرب عنقك. قال فشهد شهادة الحق فأسلم. قال العباس. قلت يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب الفخر، فاجعل له شيئا. قال: نعم، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه عليه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن. ثم أمر العباس أن يحبس أبا سفيان بمضيق الوادي عند خطم الجبل حتى تمر به جنود الله فيراها، ففعل، فمرت القبائل على راياتها، كلما مرت قبيلة، قال: يا عباس من هذه؟ فأقول: سليم. قال: يقول: ما لي ولسليم؟ ثم تمر به القبيلة، فيقول: يا عباس ما هؤلاء؟ فأقول: مزينة. فيقول: ما لي ولمزينة، حتى نفدت القبائل، ما تمر به قبيلة إلا سألني عنها، فإذا أخبرته بهم، قال: ما لي ولبني فلان؟ حتى مر به رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ص: 230 ] في كتيبته الخضراء، فيها المهاجرون والأنصار، لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد. قال: سبحان الله، يا عباس من هؤلاء؟ قال: قلت: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في المهاجرين والأنصار. قال: ما لأحد بهؤلاء قبل ولا طاقة.

وفي صحيح البخاري: أن كتيبة الأنصار جاءت مع سعد بن عبادة، ومعه الراية، قال: ولم ير مثلها، قال: ثم جاءت كتيبة هي أقل الكتائب، فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وراية النبي صلى الله عليه وسلم مع الزبير .

كذا وقع عند جميع الرواة، ورواه الحميدي في كتابه: هي أجل الكتائب، وهو الأظهر.

رجع إلى الأول: فقال أبو سفيان: والله يا أبا الفضل لقد أصبح ملك ابن أخيك اليوم عظيما. قال: قلت: يا أبا سفيان إنها النبوة. قال: فنعم إذن. قال: قلت: النجاء إلى قومك، حتى إذا جاءهم صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش هذا محمد قد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن. فقامت إليه هند بنت عتبة، فأخذت بشاربه، فقالت: اقتلوا الحميت الدسم الأحمس ، قبح من طليعة قوم. قال: ويلكم لا تغرنكم هذه من أنفسكم، فإنه قد جاءكم ما لا قبل لكم به، من دخل دار أبي سفيان فهو آمن. قالوا: قاتلك الله وما تغني عنا دارك؟ قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن. فتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد.


التالي السابق


الخدمات العلمية