الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 276 ] القول في أنواع هذا النسك

والمحرمون إما محرم بعمرة مفردة ، أو محرم بحج فرد ، أو جامع بين الحج والعمرة ، وهذان ضربان : إما متمتع ، وإما قارن . فينبغي أولا أن نجرد أصناف هذه المناسك الثلاث ثم نقول ما يفعل المحرم في كلها ، وما يخص واحدا واحدا منها إن كان هنالك ما يخص ، وكذلك نفعل فيما يعد الإحرام من أفعال الحج - إن شاء الله تعالى .

القول في شرح أنواع هذه المناسك

فنقول : إن الإفراد هو ما يتعرى عن صفات التمتع والقران ، فلذلك يجب أن نبدأ أولا بصفة التمتع ، ثم نردف ذلك بصفة القران .

القول في التمتع

فنقول : إن العلماء اتفقوا على أن هذا النوع من النسك الذي هو المعنى بقوله - سبحانه - : ( فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي ) هو أن يهل الرجل بالعمرة في أشهر الحج من الميقات ، وذلك إذا كان مسكنه خارجا عن الحرم ، ثم يأتي حتى يصل البيت فيطوف لعمرته ويسعى ويحلق في تلك الأشهر بعينها ، ثم يحل بمكة ، ثم ينشئ الحج في ذلك العام بعينه وفي تلك الأشهر بعينها من غير أن ينصرف إلى بلده ، إلا ما روي عن الحسن أنه كان يقول : هو متمتع وإن عاد إلى بلده ولم يحج ; أي عليه هدي المتمتع المنصوص عليه في قوله - تعالى - : ( فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي ) لأنه كان يقول : عمرة في أشهر الحج متعة . وقال طاوس : من اعتمر في غير أشهر الحج ثم أقام حتى الحج وحج من عامه أنه متمتع .

واتفق العلماء على أن من لم يكن من حاضري المسجد الحرام فهو متمتع . واختلفوا في المكي هل يقع منه التمتع أم لا يقع ؟ والذين قالوا إنه يقع منه اتفقوا على أنه ليس عليه دم لقوله - تعالى - : ( ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام ) . واختلفوا فيمن هو حاضر المسجد الحرام ممن ليس هو ، فقال مالك : حاضرو المسجد الحرام هم أهل مكة وذي طوى ، وما كان مثل ذلك من مكة . وقال أبو حنيفة : هم أهل المواقيت فمن دونهم إلى مكة . وقال الشافعي بمصر : من كان بينه وبين مكة ليلتان وهو أكمل المواقيت . وقال أهل الظاهر : من كان ساكن الحرم . وقال الثوري : هم أهل مكة فقط . وأبو حنيفة يقول : إن حاضري المسجد الحرام لا يقع منهم التمتع ، وكره ذلك مالك .

وسبب الاختلاف : اختلاف ما يدل عليه اسم حاضري المسجد الحرام بالأقل والأكثر ، ولذلك لا يشك أن أهل مكة هم حاضري المسجد الحرام كما لا يشك أن من خارج المواقيت ليس منهم .

فهذا هو نوع التمتع المشهور - ومعنى التمتع : أنه تمتع بتحلله بين النسكين وسقوط السفر عنه مرة ثانية إلى النسك الثاني الذي هو الحج - .

وهنا نوعان من التمتع اختلف العلماء فيهما :

أحدهما : فسخ الحج في عمرة - وهو تحويل النية من الإحرام بالحج إلى العمرة - : فجمهور العلماء [ ص: 277 ] يكرهون ذلك من الصدر الأول وفقهاء الأمصار . وذهب ابن عباس إلى جواز ذلك ، وبه قال أحمد وداود وكلهم متفقون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر أصحابه عام حج بفسخ الحج في العمرة ، وهو قوله - عليه الصلاة والسلام - : " لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة " . وأمره لمن لم يسق الهدي من أصحابه أن يفسخ إهلاله في العمرة ، وبهذا تمسك أهل الظاهر .

والجمهور رأوا ذلك من باب الخصوص لأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، واحتجوا بما روي عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن الحارث بن بلال بن الحارث المدني عن أبيه قال : " قلت : يا رسول الله أفسخ لنا خاصة أم لمن بعدنا ؟ قال : لنا خاصة " . وهذا لم يصح عند أهل الظاهر صحة يعارض بها العمل المتقدم . وروي عن عمر أنه قال : " متعتان كانتا على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما : متعة النساء ، ومتعة الحج " . وروي عن عثمان أنه قال : متعة الحج كانت لنا وليست لكم . وقال أبو ذر : ما كان لأحد بعدنا أن يحرم بالحج ثم يفسخه في عمرة هذا كله مع ظاهر قوله - تعالى - : ( وأتموا الحج والعمرة لله ) .

والظاهرية على أن الأصل اتباع فعل الصحابة حتى يدل الدليل من كتاب الله أو سنة ثابتة على أنه خاص .

فسبب الاختلاف : هل فعل الصحابة محمول على العموم أو على الخصوص .

وأما النوع الثاني من التمتع : فهو ما كان يذهب إليه ابن الزبير من أن التمتع الذي ذكره الله هو تمتع المحصر بمرض أو عدو ، وذلك إذا خرج الرجل حاجا فحبسه عدو أو أمر تعذر به عليه الحج حتى تذهب أيام الحج ، فيأتي البيت فيطوف ويسعى بين الصفا والمروة ، ويحل ثم يتمتع بحله إلى العام المقبل ، ثم يحج ويهدي ، وعلى هذا القول ليس يكون التمتع المشهور إجماعا . وشذ طاوس أيضا فقال : إن المكي إذا تمتع من بلد غير مكة كان عليه الهدي .

واختلف العلماء فيمن أنشأ عمرة في غير أشهر الحج ثم عملها في أشهر الحج ثم حج من عامه ذلك ، فقال مالك : عمرته في الشهر الذي حل فيه ، فإن كان حل في أشهر الحج فهو متمتع ، وإن كان في غير أشهر الحج فليس بمتمتع ، وبقريب منه قال أبو حنيفة والشافعي والثوري ، إلا أن الثوري اشترط أن يوقع طوافه كله في شوال ، وبه قال الشافعي . وقال أبو حنيفة : إن طاف ثلاثة أشواط في رمضان وأربعة في شوال كان متمتعا ، وإن كان عكس ذلك لم يكن متمتعا - أعني : أن يكون طاف أربعة أشواط في رمضان وثلاثة في شوال - . وقال أبو ثور : إذا دخل العمرة في غير أشهر الحج فسواء طاف لها في غير أشهر الحج أو في أشهر الحج لا يكون متمتعا .

وسبب الاختلاف : هل يكون متمتعا بإيقاع إحرام العمرة في أشهر الحج فقط أم بإيقاع الطواف معه ؟ ثم إن كان بإيقاع الطواف معه فهل بإيقاعه كله أم أكثره فأبو ثور يقول : لا يكون متمتعا إلا بإيقاع الإحرام في أشهر الحج ؛ لأن بالإحرام تنعقد العمرة . والشافعي يقول : الطواف هو أعظم أركانها ، فوجب أن يكون به متمتعا; فالجمهور على أن من أوقع بعضها في أشهر الحج كمن أوقعها كلها .

وشروط التمتع عند مالك ستة :

أحدها : أن يجمع بين الحج والعمرة في شهر واحد .

والثاني : أن يكون ذلك في عام واحد .

[ ص: 278 ] والثالث : أن يفعل شيئا من العمرة في أشهر الحج .

والرابع : أن يقدم العمرة على الحج .

والخامس : أن ينشئ الحج بعد الفراغ من العمرة وإحلاله منها .

والسادس : أن يكون وطنه غير مكة .

فهذه هي صورة التمتع ، والاختلاف المشهور فيه والاتفاق .

التالي السابق


الخدمات العلمية