الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                            ( وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون )

                                                                                                                                                                                                                                            قوله تعالى : ( وكذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون )

                                                                                                                                                                                                                                            فيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : اعلم أن يوسف عليه السلام لما التمس من الملك أن يجعله على خزائن الأرض لم يحك الله عن الملك أنه قال : قد فعلت ، بل الله سبحانه قال : ( وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ) فههنا المفسرون قالوا في الكلام محذوف وتقديره : قال الملك قد فعلت ، إلا أن تمكين الله له في الأرض يدل على أن الملك قد أجابه ما سأل .

                                                                                                                                                                                                                                            وأقول : ما قالوه حسن ، إلا أن ههنا ما هو أحسن منه ؛ وهو أن إجابة الملك له سبب في عالم الظاهر ، وأما المؤثر الحقيقي : فليس إلا أنه تعالى مكنه في الأرض ، وذلك لأن ذلك الملك كان متمكنا من القبول ومن الرد ، فنسبة قدرته إلى القبول وإلى الرد على التساوي ، وما دام يبقى هذا التساوي امتنع حصول القبول ، فلا بد وأن يترجح القبول على الرد في خاطر ذلك الملك ، وذلك الترجح لا يكون إلا [ ص: 130 ] بمرجح يخلقه الله تعالى ، إذا خلق الله تعالى ذلك المرجح ؛ حصل القبول لا محالة ، فالتمكن ليوسف في الأرض ليس إلا من خلق الله تعالى في قلب ذلك الملك بمجموع القدرة والداعية الجازمة اللتين عند حصولهما يجب [حصول] الأثر ، فلهذا السبب ترك الله تعالى ذكر إجابة الملك واقتصر على ذكر التمكين الإلهي ، لأن المؤثر الحقيقي ليس إلا هو .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : روي أن الملك توجه وأخرج خاتم الملك وجعله في أصبعه وقلده بسيفه ووضع له سريرا من ذهب مكللا بالدر والياقوت ، فقال يوسف عليه السلام : أما السرير فأشد به ملكك ، وأما الخاتم فأدبر به أمرك ، وأما التاج فليس من لباسي ولا لباس آبائي ، وجلس على السرير ودانت له القوم ، وعزل الملك قطفير زوج المرأة المعلومة ، ومات بعد ذلك ، وزوجه الملك امرأته ، فلما دخل عليها قال : أليس هذا خيرا مما طلبت ؟ فوجدها عذراء فولدت له ولدين إفرايم وميشا ، وأقام العدل بمصر ، وأحبته الرجال والنساء ، وأسلم على يده الملك ، وكثير من الناس ، وباع من أهل مصر في سني القحط الطعام بالدراهم والدنانير في السنة الأولى ، ثم بالحلي والجواهر في السنة الثانية ، ثم بالدواب ، ثم بالضياع والعقار ، ثم برقابهم حتى استرقهم سنين ، فقالوا : والله ما رأينا ملكا أعظم شأنا من هذا الملك حتى صار كل الخلق عبيدا له ، فلما سمع ذلك قال : إني أشهد الله أني أعتقت أهل مصر عن آخرهم ورددت عليهم أملاكهم ، وكان لا يبيع لأحد ممن يطلب الطعام أكثر من حمل البعير لئلا يضيق الطعام على الباقين ، هكذا رواه صاحب "الكشاف" والله أعلم .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : قوله : ( وكذلك ) الكاف منصوبة بالتمكين ، وذلك إشارة إلى ما تقدم ، يعني به ومثل ذلك الإنعام الذي أنعمنا عليه في تقريبنا إياه من قلب الملك ، وإنجائنا إياه من غم الحبس ، وقوله : ( مكنا ليوسف في الأرض ) أي أقدرناه على ما يريد برفع الموانع ، وقوله : ( يتبوأ منها حيث يشاء ) يتبوأ في موضع نصب على الحال تقديره : مكناه متبوأ ، وقرأ ابن كثير : ( نشاء ) بالنون مضافا إلى الله تعالى ، والباقون بالياء مضافا إلى يوسف .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن قوله : ( يتبوأ منها حيث يشاء ) يدل على أنه صار في الملك بحيث لا يدافعه أحد ، ولا ينازعه منازع ، بل صار مستقلا بكل ما شاء وأراد ، ثم بين تعالى ما يؤكد أن ذلك من قبله ، فقال : ( نصيب برحمتنا من نشاء ) .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أنه تعالى ذكر أولا أن ذلك التمكين كان من الله لا من أحد سواه ، وهو قوله : ( وكذلك مكنا ليوسف في الأرض ) ثم أكد ذلك ثانيا بقوله : ( نصيب برحمتنا من نشاء ) وفيه فائدتان :

                                                                                                                                                                                                                                            الفائدة الأولى : أن هذا يدل على أن الكل من الله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                            قال القاضي : تلك المملكة لما لم تتم إلا بأمور فعلها الله تعالى صارت كأنها حصلت من قبله تعالى .

                                                                                                                                                                                                                                            وجوابه : أنا ندعي أن نفس تلك المملكة إنما حصلت من قبل الله تعالى ؛ لأن لفظ القرآن يدل على قولنا ، والبرهان القاطع الذي ذكرناه يقوي قولنا ، فصرف هذا اللفظ إلى المجاز لا سبيل إليه .

                                                                                                                                                                                                                                            الفائدة الثانية : أنه أتاه ذلك بمحض المشيئة الإلهية والقدرة النافذة .

                                                                                                                                                                                                                                            قال القاضي : هذه الآية تدل على أنه تعالى يجري أمر نعمه على ما يقتضيه الصلاح . [ ص: 131 ]

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : الآية تدل على أن الأمور معلقة بالمشيئة الإلهية والقدرة المحضة ، فأما رعاية قيد الصلاح ، فأمر اعتبرته أنت من نفسك مع أن اللفظ لا يدل عليه .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( ولا نضيع أجر المحسنين ) وذلك لأن إضاعة الأجر إما أن يكون للعجز أو للجهل أو للبخل والكل ممتنع في حق الله تعالى ، فكانت الإضاعة ممتنعة .

                                                                                                                                                                                                                                            واعلم أن هذا شهادة من الله تعالى على أن يوسف عليه السلام كان من المحسنين ، ولو صدق القول بأنه جلس بين شعبها الأربع لامتنع أن يقال : إنه كان من المحسنين ، فههنا لزم إما تكذيب الله في حكمه على يوسف بأنه كان من المحسنين وهو عين الكفر ، أو لزم تكذيب الحشوي فيما رواه وهو عين الإيمان والحق .

                                                                                                                                                                                                                                            ثم قال تعالى : ( ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون ) وفيه مسائل :

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الأولى : في تفسير هذه الآية قولان :

                                                                                                                                                                                                                                            القول الأول : المراد منه أن يوسف عليه السلام وإن كان قد وصل إلى المنازل العالية والدرجات الرفيعة في الدنيا إلا أن الثواب الذي أعده الله له في الآخرة خير وأفضل وأكمل ، وجهات الترجيح قد ذكرناها في هذا الكتاب مرارا وأطوارا ، وحاصل تلك الوجوه أن الخير المطلق هو الذي يكون نفعا خالصا دائما مقرونا بالتعظيم ، وكل هذه القيود الأربعة حاصلة في خيرات الآخرة ، ومفقودة في خيرات الدنيا .

                                                                                                                                                                                                                                            القول الثاني : أن لفظ الخير قد يستعمل لكون أحد الخيرين أفضل من الآخر كما يقال : ( الجلاب خير من الماء ) ، وقد يستعمل لبيان كونه في نفسه خيرا من غير أن يكون المراد منه بيان التفضيل ، كما يقال : الثريد خير من الله ، يعني الثريد خير من الخيرات حصل بإحسان من الله .

                                                                                                                                                                                                                                            إذا ثبت هذا فقوله : ( ولأجر الآخرة خير ) إن حملناه على الوجه الأول لزم أن تكون ملاذ الدنيا موصوفة بالخيرية أيضا ، وأما إن حملناه على الوجه الثاني لزم أن لا يقال إن منافع الدنيا أيضا خيرات ، بل لعله يفيد أن خير الآخرة هو الخير ، وأما ما سواه فعبث .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثانية : لا شك أن المراد من قوله : ( ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون ) شرح حال يوسف عليه السلام فوجب أن يصدق في حقه أنه من الذين آمنوا وكانوا يتقون ، وهذا تنصيص من الله - عز وجل - على أنه كان في الزمان السابق من المتقين ، وليس ههنا زمان سابق ليوسف عليه السلام يحتاج إلى بيان أنه كان فيه من المتقين إلا ذلك الوقت الذي قال الله فيه : ( ولقد همت به وهم بها ) ( يوسف : 24 ) فكان هذا شهادة من الله تعالى على أنه عليه السلام كان في ذلك الوقت من المتقين ، وأيضا قوله : (ولا نضيع أجر المحسنين ) شهادة من الله تعالى على أنه عليه السلام كان من المحسنين ، وقوله : ( إنه من عبادنا المخلصين ) ( يوسف : 24 ) شهادة من الله تعالى على أنه من المخلصين فثبت أن الله تعالى شهد بأن يوسف عليه السلام كان من المتقين ومن المحسنين ومن المخلصين ، والجاهل الحشوي يقول : إنه كان من الأخسرين المذنبين ، ولا شك أن من لم يقل بقول الله سبحانه وتعالى مع هذه التأكيدات كان من الأخسرين .

                                                                                                                                                                                                                                            المسألة الثالثة : قال القاضي : قوله تعالى : ( ولأجر الآخرة خير للذين آمنوا وكانوا يتقون ) يدل على بطلان قول المرجئة : الذين يزعمون أن الثواب يحصل في الآخرة لمن لم يتق الكبائر . [ ص: 132 ]

                                                                                                                                                                                                                                            قلنا : هذا ضعيف ؛ لأنا إن حملنا لفظ " خير " على أفعل التفضيل لزم أن يكون الثواب الحاصل للمتقين أفضل ولا يلزم أن لا يحصل لغيرهم أصلا ، وإن حملناه على أصل معنى الخيرية ، فهذا يدل على حصول هذا الخير للمتقين ، ولا يدل على أن غيرهم لا يحصل لهم هذا الخير .

                                                                                                                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                            الخدمات العلمية